والشعر كان عمود الرواية، فلا بد منه لكل راوية، وإنما يتفاضلون فيه من جهتين: الاتساع في الرواية، وأكثر ما يكون فيمن لم تقتطعه العلوم التي يفتن فيها علماء الرواة: كالنسب، والخبر، والعربية، والقراءة، والحديث، ومن هذا الاتساع ينشأ الوضع، وقد مكنا القول فيه من قبل.
والجهة الثانية معرفة تفسيره والبصر بمعانيه، وهي التي نرمي إلى الكلام عليها في هذا الفصل.
كان صدور الرواة إنما يطلبون الشعر للشاهد والمثل، وهما غرضان أكثر ما تؤديهما الألفاظ دون المعاني، ولما كانت الألفاظ عربية صريحة ينبغي أن تؤخذ بالتسليم ولا وجه لتقليبها ونقدها والتورك عليها انصرف أكثرهم عن البحث في الشعر والتصفح على معانيه، فاقتصر العلم به على رواية اللفظ كما هو وما يقتضى لها من فهم المعنى كما هو؛ وبذلك بقي الشعر أيضًا كما هو.
ومن شعر العرب نوع مما يقال على المشاهدة، فيستخرج الشاعر المعنى الغريب من شيء رآه ويكون في اللفظ إبهام لا يتعين معه أصل المعنى، وهذا النوع إن لم يفسره شاعره أو من أخذه عنه، ذهب العلم بحقيقة معناه واضطربت فيه الظنون؛ ونوع آخر يتعلق بالعادات التي كانت للعرب في جاهليتها، ولا بد لتفسيره من المعرفة بها، وبما كان خاصا منها بقبيلة الشاعر إن كان من ذلك شيء؛ ونوع ثالث يتعلق بعلوم العرب التي أخذتها عن الأمم واعتبرتها علومًا صحيحة واعتبرها من جاء بعدهم، الخرافات والتكاذيب، ويسمى الرواة كل ذلك في الشعر بأبيات المعاني؛ لأنها أشياء خارجة عن غرضهم اللفظي الذي أومأنا إليه، والعلم بتلك الأبيات وتفسيرها أكثر ما يكون عند الشعراء