للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والرجاز من العرب الذي نشئوا في البادية كما نشأ أصحاب المعاني، أو الذين رووا الشعر عمن نشأ فيها وأقاموا بالأمصار: كالحطيئة، وجرير، والفرزدق، والكميت، وغيرهم؛ لأنها طرف من صناعتهم؛ لأن الشعر كان لا يزال على بداوته وإن ضعف شيئًا قليلًا. وسيأتي الكلام على هذا النوع مفصلًا في باب الشعر.

أما الرواة فقد انصرفوا عن هذا وأشباهه، وكانوا يرون المعاني على مقادير أصحابها من الشعراء في أوهامهم. فالمعنى الذين يكون لامرئ القيس يكون كامرئ القيس في اعتباره وإجلاله وتحاميه أن يتلقى بالرد والمواجهة ولذا فشا الغلط بينهم في تفسير الشعر، وأخذ منه التصحيف كل مأخذ؛ ولقد سئل أبو عمرو بن العلاء عن معنى قول امرئ "ومر تفسيره عن الكميت":

نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لامين على نابل

فقال: ذهب من يحسنه.

وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو عن قوله "أي: الشاعر":

زعموا أن كل من ضرب العيـ ... ـر موال لنا وأنى الولاء

فقال: مات الذين يعرفون هذا؛ وإنما يعني شعراء العرب لا الرواة. وكان أبو عمرو نفسه يقول: العلماء بالشعر أقل من الكبريت الأحمر.

فلما أخذ الخلفاء وأمراؤهم يطارحون الرواة ويذاكرونهم في المعاني، وذلك حين استبحر العلم في الدولة العباسية، وكانت قد انحرفت طريقة الشعر بما ذهب إليه المحدثون: كبشار بن برد، ومسلم، وأبي نواس، وغيرهم؛ إذ جعلوا يغوصون على المعاني ويتلومون على حوك الشعر وسبكه، وأقبل الناس أيضًا يفتشون على المعاني، وقلت عنايتهم بالألفاظ, انتبه بعض الرواة إلى هذه الجهة من الشعر، وأعطوها قسطها من العناية، فنبغت منهم طبقة لم يعرف غيرها، ولم تنبغ من ذلك إلا في معاني أشعار العرب ومن يستشهد بقولهم دون المولدين؛ وهؤلاء كان شعرهم أدق معاني وأبعد أغراضًا؛ وقد انفرد يومئذ بعلم الشعر على الإطلاق -أغراضه ومعانيه ومذاهب النقد فيه- أهل الطبع والبلاغة من أدباء الكتاب الذين صرفوا القول في فنونه واندفعوا إلى مضايقه وحزونه؛ قال الجاحظ: طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يعرف إلا غريبه "الألفاظ والمعاني العربية" فسألت الأخفش فلم يعرف إلا إعرابه، فسألت أبا عبيدة فرأيته لا ينفذ إلا فيما اتصل بالأخبار؛ ولم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب، كالحسن بن وهب وغيره.

أما الطبقة التي أومأنا إليه فرجالها ثلاثة: خلف الأحمر، والأصمعي، وجهم بن خلف المازني، وهو معاصرهما؛ وكانوا ثلاثتهم يتقاربون في ذلك، وامتاز خلف بقول الشعر وإحسانه وإجادته حتى لا ينزل عن الطبقة التي يقارنه بها، ومن ثم كان ينحل الشعراء المتقدمين؛ ذهابًا بنفسه، واعتدادًا بما تطوع له؛ وكان أيضا أعلم الرواة بالشعر ومعانيه ومذاهب الشعراء فيه، ثم هو معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة، وقد أجمعوا على أنه أفرس الناس ببيت شعر، وكان علماؤهم لا يتكلمون في الشعر ونقده ما لم يكن حاضرًا، ولا يراجعونه في قول إن قال وفي رأي إن رأى؛ ولكن الأصمعي فاته

<<  <  ج: ص:  >  >>