بمعرفة النحو مع مقاربته له في المعاني وصدقه في الرواية؛ ولذا فضلوه عليه؛ وكان للأصمعي ذهن ثاقب وطبع صحيح؛ فما لبث في آخر عهده أن صار أبعد نظرًا في الشعر من أستاذه وأوسع رواية فيه؛ حتى كان الرشيد يسميه شيطان الشعر؛ وقال ابن الأعرابي: شهدت الأصمعي وقد أنشد نحوًا من مائتي بيت ما فيها بيت عرفناه.
وأما جهم بن خلف المازني فهو يقارب الأصمعي وخلفًا، وينفرد دونهما بسعة علمه في عادات العرب وحقائق أوصافها؛ ولذا كان كثير الشعر في الحشرات والجارح من الطير ونحوها؛ إلى ما يتصل بذلك من معاني البادية التي لا ينفذ في حقائقها إلا العربي القح وإلا البدوي الجافي.
ولم يساو هذه الطبقة أحد ممن جاء بعدهم من الرواة، إلا ابن دريد المتوفى سنة ٣٢١هـ؛ وكان أحفظ الناس وأوسعهم علمًا وأقدرهم على الشعر وأبصرهم بمذاهبه؛ ولذلك نظروه بخلف، وقالوا: ما ازدحم العلم والشعر في صدر أحد ازدحامهما في صدر خلف الأحمر وابن دريد، ولو كان الأصمعي يجمع إلى علمه وروايته القدرة على الشعر وصوغه لكانه نادرة التاريخ العربي كله بلا امتراء.
وقد وقفنا للجاحظ على فصل نادر يصف به رواة عصره في معرفتهم بالشعر وبصرهم بمعانيه وما تلتمس من أغراضه كل طائفة منهم، وانصراف الناس يومئذ إلى حقيقة الشعر والتفتيش على دقائقه مما هو من محض البلاغة وصميم الفصاحة، ثم ما تدرجوا فيه من ذلك؛ ونحن نورد كلامه توفية لفائدة هذا الفصل، ولكنا ننبهك إلى أن الجاحظ يتحامل على من أدركه من الرواة الذين كان إليهم أمر اللغة؛ لأنهم لم يوثقوه، بل ذموه وهجنوا كتبه وتنقصوا روايته، وسنشير إلى ذلك بعد.
قال الجاحظ: قد أدركت رواة المسجديين والمربديين؛ ومن لم يرو أشعار المجانين "كمجنون بني جعدة، ومجنون بني عامر، وغيرهما من العشاق" ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المصنفة, فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة؛ ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الأحاديث والقصائد والنتف من كل شيء، ولقد شهدتهم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب عباس ابن الأحنف؛ فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب فصار زهدهم في نسيب العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب، ثم رأيتهم منذ سنيات وما يروي عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فتياني متغزل؛ وقد جلست إلى أبي عبيدة والأصمعي ويحيى بن تخيم وأبي مالك عمرو بن كركرة مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده؛ وكان خلف يجمع ذلك كله، ولم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل، ورأيت عامتهم -فقد طالت مشاهدتي لهم- لا يقفون على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إن صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت اللسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني. ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة حذاق الشعراء أظهر؛ ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعارًا من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وربما خيل إلي أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبدًا أن يقولوا شعرًا جيدًا، لمكان إغراقهم في أولئك الآباء، ولولا أن أكون عيابًا ثم للعلماء خاصة، لصورت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة. ا. هـ.