قد يكون لفظ الارتجال مأخوذًا من الانصباب والسهولة، ومنه قيل: شعر رجل إذا كان سبطًا مسترسلًا غير جعد، أو من ارتجال البئر، وذلك أن ينزلها الرجل برجليه من غير حبل؛ لأن الشعر لا يسمى مرتجلًا إلا إذا كان انهمارًا واندقاقًا لا تعمل فيه ولا تروئة، وكانت هذه سنة العرب في جاهليتهم، إذ هم لم يحتذوا الشعر على مثال، بل كان ذلك نوعًا من كلامهم متى بعث أحدهم عليه انبعث، ولما كانت أسبابه الطبيعية فيهم ترجع إلى جملة النفس، كان هذا الكلام كامنًا فيها، لا يهيجه إلا اضطرابها فكان من أسبابه الطبيعية فيهم ترجع إلى جملة النفس، كان هذا الكلام كامنًا فيها، لا يهيجه إلا اضطرابها فكان من أسباب ذلك ما تجد النفس في لذة المغالبة والمدافعة، كالمماتنة والمقارضة ونحوها، وما يرفه عليها ويحسم عنها كالحداء وما في حكمه مما ينشدونه على أفواه القلب وعند الانكفاء من الغارات وأمثال ذلك، ومما يغمر النفس فتكون فيه طافية راسبة، ومن هذا النوع شعر العواطف، كالغزل والرثاء والاستغاثة والتحريض وما إليها، ومن أجل ذلك ابتدأ الشعر عند العرب بالبيتين والأبيات يقولها الرجل في حاجته، حتى وجد فيهم من جعل تلك الأسباب همه وهو الشاعر، فتركوا ذلك له وصار من عدا الشعراء منهم كما كان العرب في أوليتهم: لا يكاد الرجل يجد سبب الأبيات حتى ينتزعها من نفسه وينبعث بها طبعه، ثم فعلت الوراثة في ذلك فعلها الشعر وصار في الارتجال شيء من الصنعة يكفي له تقليب العين وخطرة الوهم، فيجيء الشاعر بالقصيدة فيها من بديع الشبيه وبارع الاستعارة وكرم الديباجة وحسن الرونق، لا يتعاون عليها إلا طبعه ومادته من الأسباب التي قدمناها، فإذا اعترض النفس ما يصرفها عن تلك الأسباب، تبلد الطبع ونضبت المادة، فربما استحالت البديهة بعد الارتجال، وربما استحالت الروية بعد البديهة، كما وقع لعبيد بن الأبرص وهو من أقدم شعراء الجاهلية وأقواهم غريزة، إذ يقول له النعمان في يوم بؤسه: أنشدني، فقال: حال الجريض دون القريض! قال: أنشدني قولك:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب!
فقال: لا، ولكن:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد!
فبلغت به حال الجزع إلى مثل هذا القول بعد روية ومراجعة. وقد عدوا نفرًا من الشعراء في عصور مختلفة كانوا في هذه الحال كما يكونون في غيرها من أحوال الأمن والدعة، وذلك لقدرتهم وسكون جأشهم وقوة غريزتهم، كهدبة بن الخشرم العذري، وطرفة بن العبد البكري، ومرة بن محكان السعدي، وعبد يغوث بن صلاءة، وتميم بن جميل، وعلي بن الجهم وغيرهم. قال الجاحظ: وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إحالة فكرة