ليس من الممكن أن يقلب العلم الواحد على أنواع متغايرة إلا ما يكون متسعًا بطبيعته لمسابقة الخواطر واستنان القرائح، وهذا شأن أكثر العلوم قبل أن تقرر قواعدها وتمهد طرقها؛ إذ ليس العلم بخصوصه إلا نوعًا من التاريخ يضبط أعمال القرائح ويرتب نتائجها؛ فإذا بلغ أن يكون في حكم المفروغ منه لبعض الاعتبارات، كمفردات اللغة مثلًا متى ذهب أهلها المأخوذة عنهم، فذلك هو العلم الذي لا فضل فيه لأحد إلا بإتقانه وحسن القيام عليه والاستنباط منه إذا قبل الاشتقاق والتفريغ؛ ولكن من أنواع العلوم ما يتصل بأجزاء الطبيعة؛ فهو أبدًا مادة الاكتشاف، وقد يكون هذا الاتصال عامة كالشعر ونحوه مما يقيد بموضوع محدود، وقد يكون خاصا كعلم النبات مثلًا، وهذه الأنواع هي التي يتفاضل فيها الأقوام وتمتاز القرائح والأفهام؛ فالعلم منها أشبه بالتاريخ السنوي لأمة لا تزال باقية ممدودًا لها في أجل العمران والحضارة.
وقد برز الأندلسيون في جميع الأنواع التي تناولها وأحسنوا القيام عليها واضطلعوا بها؛ غير أن أكثر تلك العلوم إنما وقع إليهم تاما أو هو في حكم الذي تم؛ لأن العراقيين سبقوهم إلى الاشتغال به، كعلوم اللغة والفلسفة بأنواعها، فلم يتركوا لهم إلا فضل التحقيق وما كانت تساعد عليه أحوال تلك الأزمنة من الاكتشافات وما اقتضته طبيعة أرضهم من الاختراعات الهندسية، وكأن هذا الشعب كان من فطرته وحكم الطبيعة له أن يكون متفضلًا، فعوضه التاريخ من الفضل على المشرق فضله على على أوروبا، وعلى ذلك فلا يكون بحثنا في علوم الأندلسيين علميا، إذ هم لم يبتدئوها ولم يتمموها، ولكنه تاريخي يبسط حقيقة التارخ لا حقيقة العلم ذاته، ولقد يصح أن يكون الأندلس بحث فني يذهب برأسه في تاريخ الفنون والصناعات عامة، وسنلم بشيء منه في موضع آخر من هذا الكتاب.
اشتغل الأندلسيون بعلوم الفلسفة جميعها المعروفة في التمدن العربي، وهو علم النجوم والأفلاك، والمقادير -الهندسة- والرياضيات، وآثار الطبيعة، والطب، والموسيقى، والمنطق، والفلسفة الإلهية، والسياسات المنزلية والمدنية، وبعلوم اللغة والأدب، من النحو والتصريف والتاريخ والرواية والمحاضرة، وبسائر العلوم الدينية، وسنقسم الكلام في ذلك إلى قسمين: العلوم الفلسفية، والأدبية: