بعد أن انقطعت خلافة بني أمية ولم يبق من عقبهم من يصلح للملك، استبد بالأندلس أفراد غلب كل واحد منهم على ما يليه، وهم المسمون بملوك الطوائف، فضبطوا نواحيها، وجعلوها عواصم الحضارة، وتنافسوا في أبهة الملك وفخامة الشأن، فكان منهم بنو ذي النون ملوك طليطلة، وبنو هود ملوك طرطوشة وسرقسطة وغيرهما، وملوك بني الأفطس أصحاب بطليموس وجهاتها، وبنو صمادخ أصحاب المرية، والفتيان العامرية: مجاهد ومنذر وخيران ملوك دانية "ص١٣٩ ج٢: نفح الطيب" وما منهم إلا أديب أو عالم، فنفقت بهم سوق الأدب، وصار الأديب أينما دار استند إلى ركن وتوجه إلى قبلة، حتى صارت الأندلس كعبة، لهذه العادة، لا للعبادة؛ لا جرم كان هذا العهد حافلًا بالشعراء والأدباء والقائمين على أنواع العلوم من كل من أغلت قيمته المنافسة، وقد وجدوا الزمن رخاء والعصر حضارة والنفوس متهيئة، فلم يبق لهم وراء ذلك مقترح لقريحة، ثم إن أولئك الملوك لم يخوضوا في أول أمرهم [الفتن] ، ولم تعصف بهم ريح السياسة، فانصرفوا جهدهم إلى استجماع لذة الملك، وأخذوا بأحلام المباهاة التي يهذي بها مرضى الترف اللين وضعفاء العصب السياسي، إلا قليلًا منهم، فصار المدح لغذاء أرواحهم كالملح لطعام أجسامهم؛ وثبتت العادة بذلك، حتى إن يوسف بن تاشفين لما دخل الأندلس توسط له المعتمد بن عباد عند الشعراء ليمدحوه حتى لا يصغر شأنه مع أنه دخل في نجدة لهم على الإفرنج وكان على يده النصر المبين.
وتبع ذلك من فنون الآداب ما يخلق لهم اللذة في كل صورة ويبدلها في كل حلقة، حتى يتداووا بهذه الجدة من سأم القديم وضجر التكرار، فكانت لهم المجالس العجيبة، والأوصاف البارعة، والفنون المستظرفة من صور التشبيهات، إلا أن ذلك جميعه قد كان أعوذ على الأدب بالفائدة وأرد عليه بالمنفعة، فنبغ في أيامهم من لو خلا الأدب الأندلسي إلا منهم لكانوا زينته ورواءه، وقد كاد يكون بهم القرن الخامس تاريخًا على حدة.
كان من أعظم مباهاة الطوائف أن فلانًا العالم عند فلان الملك، وفلانًا الشاعر مختص بفلان الملك "ص١٣٩ ج٢: نفح الطيب"؛ وقد بذل مجاهد العامري ملك دانية لأبي غالب اللغوي ألف دينار ومركوبًا وكساء على أن يضع اسمه في صدر [كتاب ألفه] فأبى ذلك أبو غالب وقال: كتاب ألفته لينتفع به الناس وأخلد فيه همتي، أجعل في صدره اسم غيري؟ فلما بلغ هذا مجاهدًا استحسن أنفته وأضعف له العطاء. وكان من ملوك بني هود: المقتدر بن هود، وهو آية في علوم النجوم والهندسة والفلسفة، وكان يباهي بالفقيه الأديب العالم الشاعر أبي الوليد الباجي وانحياشه إلى سلطانه؛ ومن ملوك بن الأفطس: المظفر، وكان أحرص الناس على جمع علوم الأدب خاصة من النحو واللغة والشعر ونوادر الأخبار وعيون التاريخ؛ وقد [انتخب] مما جمع من ذلك كتابه المشهور بالمظفري في خمسين جزءًا على نحو كتاب "الاختيارات" للروحي و"عيون الأخبار" لابن قتيبة "ص٤٩: