رأينا محصل ما يروي من كلام العلماء في معنى اختلاف اللغات يرجع في كل وجوهه إلى ثلاث معان:
١- ما يكون من تباين اللهجات وتنوع المنطق؛ وهذا رأس الأنواع؛ لأنه يشمل اختلافهم في إبدال الحروف وحركات البناء والإعراب واختلاف بناء الكلمة في اللغتين والتقديم والتأخير والحذف والزيادة ونحوها مما يرجع في جملته إلى صيغة الكلمة أو كيفية النطق بها. والعرب أنفسهم يعدون مثل ذلك في اللغات الأصلية التي تمثل نوعًا من أنواع الاختلاف الطبيعي فيهم؛ وقد رووا أن رجلًا قال لعمر بن الخطاب: ما ترى برجل ظحى بظبي؟ فعجب عمر ومن حضر، وقال: ما عليك لو قلت: ضحى بظبي؟ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إنها لغة! فكان عجبهم من هذه أشد.
٢- ما يكون من اختلاف الدلالة للفظ الواحد باختلاف اللغات التي تنطق به؛ ومن هذا النوع المترادف والأضداد وغيرهما مما سيأتي في محله. ورووا أن أبا هريرة لما قدم من دَوْس عام خيبر، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقعت من يده السكين، فقال له:"ناولني السكين"! فالتفت أبو هريرة يمنة ويسرة ولم يفهم ما المراد بهذا اللفظ، فكرر له القول ثانية وثالثة، وهو يفعل كذلك، ثم قال: آلمدية تريد؟ وأشار إليها، فقيل له:"نعم"! فقال: أوتسمى عندكم سكينًا؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ، ودَوْس بطن من الأزد.
٣- ما يكون قد انفرد به عربي مع إطباق العرب على النطق بخلافه؛ وهذا أقل الأنواع. وإنما يعد من اختلاف اللغات، لجواز أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة طال عهدها وعفا رسمها؛ وقد رووا عن أبي حاتم أنه سأل أم الهيثم الأعرابية عن نوع من الحب يسمى "اسفيوش": ما اسمه بالعربية؟ فقالت: أرني منه حبات! فأراها، فأفكرت ساعة ثم قالت: هذا البحدق! ولم يسمع ذلك من غيرها.
وعندنا أن لغات القبائل في اختلافها إنما هي درجات تاريخية في سلم النشوء والارتقاء يستقرى فيها سير التاريخ اللغوي من طبقة إلى طبقة؛ لأن هذه اللغات جرت من أول عهدها على اندماج النوع الأدنى منها في النوع الأرقى، واستمر ذلك بين العرب، فكلما انتشرت لغة أو لغات لقوم دون قوم تعاورها كل، وبهذا جعلت القبائل تدرج في سبيل الوحدة اللغوية العامة التي تقضي بها سنة الحياة، واعتبر هذا بما حصل آخرًا، فإنه لم يبق بين اللغات كلها إلا فروق جنسية، ثم لما ذهب عصر العرب وفسدت السلائق واختبل الكلام وأصبح اللسان تعليمًا، لم يبق من اللغة إلا اللغة، وأودعت تلك الفروق الجنسية في معرض التاريخ؛ على أن العلماء أنفسهم قد أضرحوا لهذه الفروق قبل أن تموت؛ وذلك لمكان القرآن من الوحدة اللغوية، فلم يكونوا يسمونها لغات إلا للدلالة على أنها مخالفة لما أطبق عليه أكثر العرب، وهو المعنى الاصطلاحي القديم منذ دونت اللغة.
روى أبو بكر الزبيري الأندلسي في "طبقات النحويين": قال ابن نوفل: سمعت أبي يقول لأبي