للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عمرو بن العلاء "توفي سنة ١٥٤هـ": أخبرني عما وضعت مما سميت عربية، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال: لا. فقلت: كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ قال: أحمل على الأكثر وأسمي ما خالفني: لغات.

وقد نبهنا فيما سبق إلى أن العلماء إنما يريدون بلغات العرب ما كان باقيًا لعهدهم في ألسنة من أخذوا عنهم من القبائل، وهم أقوام يمكن حصرهم والإحاطة بلهجاتهم؛ ولذا ترى سيبويه يقول في مواضع من كتابه: هذا عربي كثير في جميع لغات العرب، وهذا عربي كثير في كلامهم، وذلك قول العرب سمعناه منهم؛ ونحو هذا مما يحقق أنهم يريدون باللغات ما بيناه؛ وكذا نقلنا عن صاحب "المخصص" في بعض المواضع أنهم يعتبرون لغة الحجازيين الأصل عند اختلاف اللغات؛ لأن أصل العربية إسماعيل عليه السلام؛ وهذا المعنى قد كشفه سيبويه في باب الإدغام من كتابه حين ذكر أن أهل الحجاز دعاهم سكون الآخر في المثلين أن يبينوا في الجزم، فقالوا: اردُدْ ولا تَرْدُد، بخلاف بني تميم فهم يدغمون, قال: "وهي اللغة العربية القديمة الجيدة". وسنشير إلى هذا المعنى ببيان أوسع فيما يلي.

وبقيت اللغات مسماة منسوبة إلى أصحابها من العرب عند الرواة والعلماء إلى آخر القرن الثالث على أضعف الظن، لكثرة الرواة يومئذ وتشعب فنون الرواية، وإن كان الجوهري صاحب "الصحاح" وهو في أواخر القرن الرابع قد ذكر أنه شافه بهذه اللغة العرب العاربة في باديتها١.

ومما يروونه: أن الخليفة الواثق المتوفى سنة ٢٣٢هـ لما قدم عليه أبو عثمان المازني سأله: ممن الرجل؟ فقال: من بني مازن. قال: أي الموازن أمازن تميم أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟ فكلمه الواثق بكلام قومه وقال: "باسْبُك"؟ يريد: ما اسمك؟ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميمًا، قال المازني: فكرهت أن أجيبه على لغة قومي كيلا أواجهه بالمكر -لأن اسمه بكر- فقلت: بكر يا أمير المؤمنين! فأعجبه ذلك وقال لي: اجلس فاطبئن، يريد: اطمئن.

وبديه أن مثل هذا الاختلاف لا يتدارس ويجعل من رياضة اللسان ما لم يكن أهله في شباب أمرهم؛ لأن هرم لغة من اللغات لا يكون إلا بوشك انقراض أهلها أو تغير تاريخهم بما يشبه الانقراض، إذا تفقد أكثر مميزاتهم الاجتماعية الأولى فكأنهم غير ما كانوا.

تحقيق معنى اللغات في الاصطلاح:

رأينا علماء اللغة وأهل العربية قد طرحوا أمثلة اختلاف اللغات في كتبهم فلا قيمة لها عندهم إلا حيث يطلبها الشاهد وتقتضيها النادرة في عرض كلامهم؛ لأنهم لم يعتبروها اعتبارًا تاريخيا، فقد عاصروا أهلها، واستغنوا بهذه المعاصرة عن توريث تاريخها لمن بعدهم؛ ولو أن منهم من نصب نفسه لجمع هذه الاختلافات وإفرادها بالتدوين بعد استقصائها من لهجات العرب، وتمييز أنواعها بحسب المقاربة والمباعدة، والنظر في أنساب القبائل التي تتقارب في لهجاتها والتي تتباعد، وتعيين منازل كل


١ سنفصل تاريخ الفساد في ألسنة العرب البادين عند الكلام على اللغة العامية.

<<  <  ج: ص:  >  >>