[المعجم والمهمل]
تقدم في مبحث الخط معنى الإعجام واشتقاقه وتاريخه، والمراد بالمعجم والمهمل فيما سنأتي عليه الآن، هذا النوع من النثر والنظم الذي يلتزمون فيه إهمال بعض الأحرف وإعجام الأخرى؛ وأول من وضعه وبرز فيه الحريري صاحب "المقامات"، ولم يتكلفه أحد قبله فيما نعلم، وإن كان كثيرًا ما يتفق في منظوم الكلام ومنثوره، لكن على غير اطراد ولغير قصد، فالاطراد والقصد إذن هما معنى الاختراع فيه؛ وليس يخلو الكلام بتة من أحرف مهملة وأخرى معجمة؛ لأن بالقسمين جماع مادته وقوام تركيبه.
والذي يدل على أن الحريري هو أول [من] قصد إلى هذا النمط، ما وطأ له به في المقامة السادسة، إذ يقول عن لسان أبي زيد بعد أن تنقص القدماء؛ لأنهم لم يؤثر عنهم إلا لتقادم الموالد، لا لتقادم الصادر على الوارد: "وإني لأعرف الآن من إذا أنشأ وشّى، وإذا عبّر حبّر، وإن أسهب أذهب، وإذا أوجز أعجز، وإن بده شده، ومتى "اخترع خرع".
ثم ذكر أن إنشاء رسالة حروف إحدى كلمتيها يعمها النقط، وحروف الأخرى غير معجمة "عضلة العقد، ومحك المنتقد" وأول هذه الرسالة: "الكرم ثبت الله جيش سعودك يزين، واللؤم غض الدهر جفن حسودك يشين".
ثم عاد إلى ذلك في المقامة السادسة والعشرين، فساق رسالة سماها الرقطاء؛ لأن أحد حروفها مهمال والآخر معجم، وأولها: "أخلاق سيدنا تحب، وبعقوته يلب" إلا أنه اعتبر المد في "لا" حركة، كما اعتبر التاء المربوطة في الرسالة الأولى وما بعدها هاء.
وكذلك ذكر في المقامتين الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين خطبتين عريتين عن الإعجام؛ ثم عاود الكرة في المقامة السادسة والأربعين، فجاء بأبيات مهملة الأحرف سماها العواطل، وأبيات معجمة سماها العرائس، وأبيات كلمة منها مهملة وأخرى معجمة وسماها الأخياف.
فهذه المصطلحات التي أطلقها أسماء، وتقليبه هذا النوع على الأوجه المختلفة، والتوطئة التي استخرجناها من المقامة السادسة كلها أدلة على أن الرجل واضع هذه الطريقة؛ لأنك لا تصيب هذه العناية في مقاماته لغير هذا النوع مما عرف لمن قبله وإن كان له فيه زيادة، كالنوع الذي لا يستحيل بالانعكاس.
وقد زاد الصفي الحلي في تقسيم نوع المعجم والمهمل فأتى بأبيات صدورها معجمة وأعجازها مهملة، ولم يأت به الحريري في تقسيمه؛ ووضع بعض المتأخرين نوعًا جديدًا سماه عاطل العاطل، واستخرج ذلك من أن بعض الحروف تكون مهملة ولكن أسماءها في المنطق ليست كذلك، كالعين والميم؛ وبعضها تكون مهملة الاسم والمسمى، وهي ثمانية أحرف: الحاء، والدال، والراء، والصاد، والطاء، واللام، والواو، والهاء، فنظم منها أبياتًا كأذناب الضباب. وإنما مدار هذه الصناعة على أن تكون في نسق الكلام لا في نسق العقد، ولولا ذلك لجاء الناس منها بالطم والرم، أما أن يخرج إلى التعقيد ويؤخذ بها مأخذ الرقى والطلاسم، فلذلك اسم آخر؛ والخمر إذا فسدت صار اسمها خلا.
ومما أذكره بالإعجاب والاستحسان أن بعض علماء القرن الماضي، وهو العلامة الشيخ عبد الغني الرافعي صادف من بعض الرؤساء فتورًا، ثم انقلب إغفالًا فإهمالًا، فعاتبه برسالة مهملة الأحرف ضمنها نظمًا ونثرًا، ووقع عليها بهذا التوقيع "داع محروم".
فكان إهمال أحرفها عتابًا فوق العتاب، وحظا من البلاغة لا يعد في سحر الألسنة ولكن في سحر الألباب.
وقد وصل بعضهم بنوع المهمل إلى أن جعلوه كتبًا فمنهم من فسر به قصيدة في التصوف، ومنهم من فسر به القرآن الكريم؛ وما أقبح الفكاهة أن تكون جدا. والفاكهة في بعض الطعام أن تكون كل الطعام، وكذلك فعلوا، ومثلهم في هذه المضيعة كثير.