للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[سبب اختراعه]

وعندنا أن الذي نبههم إلى اختراع أوزان التوشيح إنما هو الغناء لا غيره، فإن تلحين البيت من الشعر قد يجيء على بعض الوجوه كالموشح؛ إذ يخرج جملًا مقطعة [تتساوق] مع النغم، فلو تنبه إلى ذلك أديب موسيقي لأمكن أن يضع أوزانًا على هذه التقاطيع، وهم لا يختارون للغناء من الشعر إلا ما احتمل في حركاته حسن التجزئة وصحة التقسيم وإجادة المقاطع والمبادئ.

والذي يدل على أن الغناء هو الأصل في التوشيح، أن الأندلس فتحت في أواخر القرن الأول، ولم يخترع التوشيح إلا في الربع الأخير من القرن الثالث، فكانت الفترة قريبة من مائتي سنة، والسبب الطبيعي في ذلك أن أمر الأندلس كان في مبدئه دينيا محضا -كما تراه في موضعه- وبقي الشعر عندهم متعلقًا بنوابغ مميزين بالضعف والقلة إلى زمن الأمير عبد الرحمن بن الحكم في أوائل القرن الثالث، حتى نبغ يحيى الغزال شاعر الأندلس وفيلسوفها؛ ثم قدم زرياب المغني من العراق على هذا الأمير سنة ٢٠٦هـ وكان الأمير مفتونًا بالغناء، فلم يمض على ذلك زمن حتى شاع الغناء وانحرف إليه الأندلسيون، وكان ذلك أول تاريخه عندهم، فلعل المدة بين شيوع الغناء واستحداث التوشيح لا تزيد عن نصف قرن.

وقد أقبل أدباء الأندلس في أواخر القرن الرابع على الموسيقى، ومن ههنا دعت الحاجة إلى التفتن في تلك الأوزان، فاستقل بذلك عبادة الذي أومأنا إليه، وليس هذا فيه بعجيب إذا عرفت أن ابن الحداد وهو معاصر عبادة، وكلاهما من شعراء المعتصم بن صمادح، قد وضع كتابًا في العروض مزج فيه بين الموسيقى وبين آراء الخليل وكل ذلك سيأتيك في موضعه مفصلًا إن شاء الله.

والأندلسيون لم يلحقوا المشارقة في الغناء، ولم يكاثروا فحولهم فيه؛ ولذلك انصرفوا عن الغناء في الشعر إلى تحميله أوزان التوشيح، فأغربوا بذلك كما قال ابن دحية على أهل المشرق؛ لأنهم جمعوا فيه جملة التطريب؛ وقد نبه على ذلك ابن رشد فيلسوف الأندلس في تلخيصه كتاب أرسطاطاليس في الشعر حيث قال كلامه على المحاكاة: "والمحكاة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل

<<  <  ج: ص:  >  >>