رأس هذه العلوم عند الأندلسيين النحو والشعر، ولا بد في كليهما من الحظ الصالح من اللغة والرواية؛ قال ابن سعد المغربي، وقد نقل كلامه صاحب "نفح الطيب": النحو عندهم في نهاية من علو الطبقة؛ حتى إنهم في هذا العصر "القرن السابع" فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هرم الزمان إلا جدة، وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه، وكل عالم في أي علم لا يكون متمكنًا من علم النحو بحيث لا تخفى عليه الدقائق فليس عندهم بمستحق للتمييز ولا سالم من الازدراء.... وعلم الأدب المنثور -من حفظ التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات- أنبل علم عندهم، وبه يتقرب من مجالس ملوكهم وأعلامهم، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفل مستثقل.... وإذا كان الشخص بالأندلس نحويا أو شاعرًا فإنه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف ويظهر العجب، عادة قد جبلوا عليها "ص١٠٣ ج١: نفح الطيب".
وقد سلف لنا كلام [في] أسباب براعتهم في الشعر، أما سبب ما ذكره ابن سعيد من حالهم في النحو وتميزهم به مع انحرافهم في اللغة العامة عن الأوضاع العربية، فهو على ما نرى أن أولئك القوم كانت لهم فطرة عجيبة في قوة الذاكرة والحفظ، ولو كانت الأندلس مكان العراق وفي جهة من البادية ما ضاع حرف من اللغة ولحفلت الكتب بفنون الأدب العربي، وذلك دأبهم قديمًا وحديثًا، مما يرجح معه أن تلك الذاكرة أثر من جمال الطبيعة في أنفسهم، ومن أجل ذلك قل أن تجد في علمائهم صاحب علم واحد أو علمين، بل فيهم من يعد في الفقهاء والمحدثين والفلاسفة والشعراء والكتاب والمؤرخين واللغويين والنحاة والأدباء، وقد يتميز في ذلك كله على اختلاف الفنون أو في أكثره، وقد ذكرنا بعضهم فيما سلف، وسنشير إلى آخرين. وإذا كان من مفاخر العراقيين أن الأصمعي يحفظ أربعة آلاف أرجوزة، وهم يعدونه أذكى العرب وأجمعهم، فقد كان من الأندلسيين في المائة الثالثة سعيد بن الفرج مولى بني أمية المعروف بالرشاشي يحفظ مثل هذا العدد للعرب خاصة، وكان يضرب به المثل في الفصاحة على كثرة ما يتقعر في كلامه "ص٢٥٦: بغية الوعاة"، وأعجب من إنشاد حماد الراوية بين يدي الوليد ليلة كاملة "وقد مر ذلك في بحث الرواية والرواة" ما ذكروا من أن أبا المتوكل الهيثم الأشبيلي حافظ الأندلسي في عصره، وكان في المائة السادسة، حضر ليلة عند أحد رؤساء أشبيلية فجرى ذكر حفظ، وكان ذلك في أول الليل، فقال لهم: إن شئتم أن تختبروني أجبتكم، فقالوا له:
بسم الله، إنا نريد أن نحدث عن تحقيق. فقال: اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها حتى تعجبوا، فاختاروا القاف، فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر وهو ينشد وزن "أرق على أرق ومثلي يأرق" وسماره قد نام بعض وضج بعض وهو ما خرج عن قافية القاف "ص٢٣٣ ج٢: نفح الطيب".
وكان من حفاظهم أبو الخطاب بن دحية المتوفى سنة ٦٣٣هـ، بلغ من حفظه للغة أن صار حوشيها مستعملًا عنده غالبًا، ولا يحفظ الإنسان حوشي اللغة إلا وذلك زكاة محفوظ من مستعملها؛