ولأبي الخطاب هذا رسائل ومخاطبات كلها مغلقات مقفلات، على أنه يرسلها عفو الساعة وفيض البديهة، ولما ارتحل إلى المشرق في دولة بني أيوب، جمعوا له علماء الحديث فذكروا أحاديث بأسانيد حولوا متونها، فأعاد المتون المحولة وعرف عن تغييرها، ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية "ص٣٦٩ ج١: نفح الطيب".
ولو شئنا أن نطيل في حفظ الأندلسيين لأتينا بالكثير من الأدباء واللغويين والنحاة، ولكنا نذكر من ذلك شيئًا مما نحن بسبيله ولا نظير له في غير الأندلس، وذلك عنايتهم بكتاب سيبويه في النحو البصري، وهو أحد الكتب الثلاثة التي يقال إنه لا يعرف كتاب ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلك الفن غيرها، وهي: كتاب سيبويه في علم النحو العربي، وكتاب المجسطي في علم هيئة الفلك وحركات النجوم، وكتاب أرسطاطاليس في علم صناعة المنطق. "ص٦٩: القفطي".
كتاب سيبويه عندهم:
لا نعرف أول من أدخل هذا الكتاب الأندلس، وقد عرفت أول من أدخل كتاب الكسائي، وهو جودي بن عثمان العبسي الذي كان يؤدب أولاد الخلفاء بالعربية، وقد رحل إلى المشرق وأخذ عن الرياشي والفراء والكسائي وأدخل كتابه إلى الأندلس "توفي سنة ١٩٨هـ"؛ ولكن أقدم من وقفنا عليه ممن حفظوا كتاب سيبويه، هو حمدون النحوي المتوفى بعد المائتين، ولعله أول من عرف به ثم كان من أشهر حفاظه في القرن الثالث الأفشين القرطبي المتوفى سنة ٣٠٩هـ، وقد أخذه بمصر عن أبي جعفر الدينوري رواية، ولكن الهمم لم تنصرف إلى استظهاره إلا في القرن الخامس كأنهم جعلوا ذلك منافسة، وقد ذكروا أن عبد الملك بن سراج إمام أهل قرطبة المتوفى سنة ٤٨٩هـ عكف عليه ثمانية عشر عامًا لا يعرف سواه "ص٣١٢: بغية الوعاة" ومن ذلك العهد ابتدءوا يقررونه ويشرحونه ويملون عليه التعاليق، ومن شراحه أبو بكر الخشني الجياني المتوفى سنة ٥٤٤هـ، وكان الناس يرحلون إليه لتقدمه في الكتاب، وهو من مفاخر الأندلسيين "ص١٠٥: البغية"؛ ولابن الطراوة النحوي الذي سيأتي ذكره في علماء القرن السادس كتاب سماه "المقدمات على كتاب سيبويه"، وشرحه ابن خروف المتوفى سنة ٦٠٩هـ وقد أملى إبراهيم بن عيسى المعروف بابن المناصف المتوفى سنة ٦٢٧هـ على قول سيبويه هذا باب علم الكلم من العربية، وهو في بضعة أسطر عشرين كراسًا "ص١٨٤: البغية" وكذلك كان لابن الحاج إملاء عليه، وكان يقول: إذا مت يفعل ابن عصفور في كتاب سيبويه ما شاء، وابن عصفور توفي سنة ٦٦٩هـ، وكثر حفاظ هذا الكتاب في القرن السادس، فكان فيه غير من ذكرناهم: محمد بن عبد المنعم، يسرده بلفظه، وهو أحفظ أهل زمانه؛ وجابر بن محمد الحضرمي الذي كان زعيم وقته بإقرائه والتقدم فيه؛ وخلف بن يوسف الذي كان يحفظ مع هذا الكتاب كتبًا أخرى كـ"أدب الكاتب" و"المقتضب" و"الكامل" للمبرد وغيرها؛ وأبو عامل بن عبد الله الأشبيلي المعروف بابن الجد الذي قال فيه ابن ملكون: من قرأ كتاب سيبويه على ابن الجد فما عليه أن لا يقرأه على سيبويه؛ وفي هذا العصر كان أحمد بن عبد النور النحوي المتوفى سنة ٧٠٢هـ لا يقرأ الكتاب