للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرحلة إلى البادية]

كان أهل المصرين: "البصرة والكوفة" عربًا كلهم في القرن الأول، إلا الموالي منهم؛ على أن كثيرًا من هؤلاء اشتغلوا بالعلوم وبرعوا فيها؛ أنفة وبقيا على أنفسهم؛ وكان أولئك العرب من قبائل مختلفة، وكلهم باق على فطرته؛ ثم كان الأعراب من أهل البادية وسكان الفيافي يطرءون على المصرين والمدينتين: "مكة والمدينة"؛ فلم يكن للرواة في القرن الأول من حاجة إلى البادية؛ لأنهم لم يكونوا قد بلغوا الغاية في تجريد القياس وتعليل النحو وتفريعه، وكان ذلك الأمر لما يضطرب، والمادة لا تزال باقية، وفي الناس فضل بعد؛ ولهذا نقطع جزمًا بأن الرحلة إلى البادية في طلب اللغة لم تكن في القرن الأول ألبتة، وإنما كان يعنى الرواة بالسماع من العرب كما أومأنا إليه آنفًا؛ فلما كانت الطبقة الثالثة من الرواة -طبقة الخليل وجماعته- وقد اختلفت أسانيد أهل المصرين عن العرب، واختلفت بذلك مذاهبهم، وتمكنت منهم العصبية، وأخذوا في الإزراء بعضهم على بعض، وخرج بعضهم من ذلك إلى الوضع والافتعال وصنعة الشواهد -كما نوضحه بعد- ورغب أهل التحصيل منهم في استيعاب الشواذ والنوادر، وأهل التحقيق في تمحيص المذاهب المختلفة، ورأوا أن أكثر القبائل البادية قد أخذت في مخالطة البلديين والأعاجم، ويوشك أن تختبل ألسنتهم ويلين جفاؤهم ويدخل على طباعهم الفساد، وأن شيئًا من ذلك قد خلص إلى الأجيال الناشئة في الحضر -لما اجتمعت لهم كل هذه الأسباب، ورأوا أن أهل الحديث يرحلون في طلب الأثر، ويقطعون ظهور الإبل إلى المرامي البعيدة، وإلى كل شرق وصقع يعلمون أن فيه من مصادر الحديث أحدًا -أخذوا هم أيضًا في سبيلهم، فرحلوا إلى البادية وهي مصدر اللغة، يطلبون جفاة الأعراب وأهل الطبائع المتوقحة، ويأخذون عن القبائل التي بعدت عن أطراف الجزيرة وبقيت في سرة البادية أو فاضت حواليها، فأخذوا عن قيس، وتميم، وأسد؛ وهؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف١، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم، وخاصة الذين كانوا يسكنون أطراف بلادهم المجاورة لمن حولهم من الأمم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد، لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان٢، ولا من بكر، لمجاورتهم للقبط والفرس ولا من عبد القيس وأزد عمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن، لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة


١ تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على "أفصح القبائل" من الباب الأول وقد كان النحو والتصريف شيئًا واحدًا في المدارسة والتدوين، ويقال: إن أول من أفرد التصريف وميزه من النحو بالتصنيف والتبويب، أبو عثمان المازني المتوفى سنة ٢٤٩هـ على الأكثر.
٢ كذا قالوا.

<<  <  ج: ص:  >  >>