وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأنهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب صادقوهم وقد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم بالحضارة، وهم لا يأخذون عن حضري قط، مع أن أولئك كانوا هم الأصل في الفصاحة العربية، وهم الذين نزل القرآن بلغتهم، والأصل فيهم قريش؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرشي ثم بنو سعد بن بكر؛ لأنه استرضع فيهم وأقام عندهم حتى ترعرع١ ثم ثقيف وخزاعة وهذيل وكنانة وأسد وضبة، وهؤلاء كانوا قريبًا من مكة، وكانت لغة أهل مكة والمدينة قد فسدت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة من خالطهم من رقيق العجم، وبمن تردد إليهم من تجارهم، وقد مر شرح ذلك في بابه.
وأقدم من عرفنا ممن رحلوا إلى البادية: يونس بن حبيب الضبي المتوفى سنة ١٨٣هـ وقد جاوز المائة فيما قيل، وخلف الأحمر المتوفى سنة ١٨٠هـ، والخليل بن أحمد المتوفى سنة ١٧٥هـ، وأبو زيد الأنصاري المتوفى سنة ٢١٥هـ عن ٩٣ سنة، وهو أكثر أهل هذه الطبقة أخذًا عن البادية، وكانت له بذلك ميزة على صاحبيه: الأصمعي، وأبي عبيدة، حتى قيل إن الأصمعي جاء يومًا إلى مجلسه فأكب على رأسه وجلس، وقال: هذا عالمنا ومعلمنا منذ عشرين سنة؛ ولقد أراد أبو زيد هذا مرة أن يعرف بابًا من الصرف ويتبين من منطق العرب ما هو أولى بالضم وما هو أولى بالكسر من باب فَعَل "بفتح العين" الذي قالوا فيه إن كل ما كان ماضيه بفتح العين ولم يكن ثانيه ولا ثالثه حرفًا من حروف اللين ولا الحلق فإنه يجوز في مضارعه ضم العين وكسرها، وليس أحدهما أولى به من الآخر ولا فيه عند العرب إلا الاستحسان والاستخفاف، كقولهم نَفَر ينفِر وينفُر، وشتَم يشتِم ويشتُم ... إلخ؛ فطاف أبو زيد في عليا قيس وتميم مدة طويلة، يسأل عن هذا الباب صغيرهم وكبيرهم، قال: فلم أجد لذلك قياسًا، وإنما يتكلم به كل امرئ منهم على ما يستحسن ويستخف لا على غير ذلك.
ولما جاءت الطبقة الرابعة التي أخذت عن هؤلاء، أخذوا عنهم التلقي عن العرب في باديتهم؛ إذ صار ذلك سنة وبابًا من أبواب الكفاية عندهم؛ ومن أقدمهم وأسبقهم إليه: النضر بن شميل المتوفى سنة ٢٠٤هـ، فإنه أخذ عن الخليل بن أحمد وعن بعض الأعراب الذين أخذت عنهم الطبقة الثالثة، وأقام بعد ذلك بالبادية أربعين سنة؛ ثم الكسائي المتوفى سنة ١٨٩هـ "على الأكثر" فإنه أخذ عن الخليل ثم خرج إلى بوادي الحجاز ونجد وتهامة ورجع وقد أنفد خمس عشرة قنينة من الحبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ!
واستمروا يرحلون إلى البادية إلى أواخر القرن الرابع، ثم فسدت سلائق العرب كما فصلناه في بابه، وبذلك انقطعت مادة الرواية عنهم واكتفى الناس بآثار أسلافهم التي حوتها الكتب؛ وإنما كان العلماء بعد ذلك يسألون بعض الأعراب المتوسمين بشيء من جفاء البادية ممن لم تنسخ فيهم الفطرة
١ أسلفنا في الكلام على تاريخ اللحن صفحة ١٥٦ أن بني مروان كانوا يلزمون أولادهم البادية لتخلص لغتهم وتسلم عربيتهم؛ وفاتنا أن نذكر هناك أن ذلك كان من شأن أهل مكة ولا يزال إلى اليوم؛ فإن أشرافها يرسلون أولادهم إلى بعض القبائل فيترعرعون فيها وقد أخذوا لغتها وحفظوا أشعارها وتفرسوا وتمهروا، وهم يتبعون في ذلك سنة أسلافهم من أيام الجاهلية.