نسخًا، وكانوا يستروحون إلى ذلك ولا يأخذون به، وبقي هذا الأمر إلى منتصف القرن السادس؛ ونقلوا عن الزمخشري المتوفى سنة ٥٣٨هـ بعض كلمات مما سألهم فيه، ولكن لم ينقلوا أن أحدًا اعتد هذا وأمثاله من اللغة وأجراه مجرى الرواية، ولا يمكن أن يكون ذلك.
فصحاء الأعراب:
وقد قلنا في فرق ما بين العربي والأعرابي في موضع ذلك من صدر هذا الكتاب؛ ورأينا العلماء وأهل اللغة في الإسلام يضربون المثل بفصاحة الأعراب وخلوص لغتهم وما لهم من بارع اللفظ وسري المخرج والعارضة الشديدة واللسان السليط، ثم ما يحمل عليها من طبع جاف متوقح غير بكيء، ولا منزور، وفطرة سليمة لا تنازع إلى غير الصواب، ولا يصرفها عنه صارف من سوء العادة أو الضعفة الحضرية، وإلى ما يكون من هذا الضرب.
والبلغاء في الصدر الأول إنما كانوا يتكلفون أن يحكوا الأعراب في مقامات الكلام؛ يبتغون من وراء ذلك بعض ما يرده التقليد والحكاية من تلك الصفات؛ وكان أفصح الناس إنما يرى منزلته منهم أن يجري على ما سبق إليه من أعراقهم، فهو منهم بطبيعته دون موضع الغاية وعلى حد المقاربة في منزلة بين المنزلتين. ولا نفيض هنا في هذا المعنى وأدلته، فقد أسلفنا منه أشياء وسنأتي على بقيته في باب الخطابة، وإنما نكتفي بهذا الإيماء لأنه سبيل ما نحن فيه.
كان الأعراب يطرءون من البادية على الحضر، فيلقاهم الرواة بما اختلفوا فيه، يعترضون حجته في منطقتهم، ويتلقفون أدلته من أفواههم، ويتحملون عنهم بالنوادر وما إليها، ومنهم طائفة كانوا ينزلون الأمصار العربية ويقيمون بها، فيأنسون إلى الرواة ويسكنون إلى مسألتهم، ثم ينتهي الأمر بهم إلى أن يصيروا أساتذة القوم في الفتيا ومرجعهم في الخلاف، لا يتبرءون بذلك بل يتصدرون له؛ لأنهم يخشون على ألسنتهم من طول المكث في الحضر، فلا ينفكون يذاكرون الرواة؛ إذ لا يجدون غيرهم من سائر الناس، وهم الذين يسمونهم فصحاء الأعراب.
ويبتدئ تاريخهم منذ مست الحاجة إليهم في الطبقة الثانية من الرواة عند تفريع النحو وقياسه كما أشرنا إليه، ولذا لم نر لأحد من هؤلاء الأعراب اسمًا مذكورًا قبل أبي خيرة وأبي الدقيش ورؤبة بن العجاج الراجز، وأبي المهدي وأبي المنتجع وأضرابهم ممن أخذت عنهم تلك الطبقة.
ولما كثر تردد الأعراب على الرواة ومذاكرتهم إياهم، أقبل بعضهم على الطلب والرواية عن العلماء والتلمذة لهم؛ ولم نقف على أحد فعل ذلك قبل أبي مسحل الأعرابي الذي قدم من البادية وأخذ النحو عن الكسائي المتوفى سنة ١٨٩هـ، وروى شعرًا كثيرًا في الشواهد عن علي بن المبارك، ثم صنف في النوادر والغريب؛ أما قبل ذلك فكان فصحاء الأعراب إنما يلمون بالرواة إلمامًا، كالذين كانوا يقصدون منهم حلقة يونس بن حبيب بالبصرة، وكان بعضهم يقف على حلقة أبي زيد الأنصاري يسأله عن أشياء من العربية تظرفًا لا حاجة.
ومتى طال مكث الأعرابي في الحضر ضعفت طبيعته ورق لسانه؛ فإذا آنس منه الرواة ذلك وضعوا له الأقيسة الفاسدة يمتحنونه بها كما مر في موضعه، وإذا وجدوه قد صار يفهم الكلام على