لحن أهل الحضر -فضلًا عن أن يحكيه مثلهم- نبذوه؛ لأن الأصل أن لا يفهم هذا اللحن إلا من زاوله ودار على سمعه حتى ألفه؛ وقال الجاحظ "توفي سنة ٢٥٥هـ": "إنهم لا يفهمون قولهم: ذهبت إلى أبو زيد، ورأيت أبي عمرو...." ثم قال: "ومتى وجد النحويون أعرابيا يفهم هذا وأشباهه، بهرجوه ولم يسمعوا منه؛ لأن ذلك يدل على طول إقامته في الدار التي تفسد وتنقض البيان؛ لأن تلك اللغة إنما انقادت واستوت واطردت وتكاملت، بالخصال التي اجتمعت لها في تلك الجزيرة وفي تلك الجيرة، لفقد الخطباء من جميع الأمم، ولقد كان بين يزيد بن كثوة يوم قدم علينا البصرة وبينه يوم مات بون بعيد، على أنه قد كان وضع منزله في آخر موضع الفصاحة وأول موضع العجمة "تأمل" وكان لا ينفك من رواة ومذاكرين".
وقد سقنا مثلًا من أسئلة الأعراب في بعض الفصول التي تقدمت، ونسوق هنا بعضها توفية لفائدة هذا الفصل.
وروى المبرد في "الكامل" أن الأصمعي شك في لفظ استخذى "خضع" وأحب أن يستثبت: أهي مهموزة أم غير مهموزة، قال: فقلت لأعرابي: أتقول استحذيت أم استحذأت؟ قال: لا أقولهما! فقلت: ولم؟ قال: لأن العرب لا تستخذي "لا تخضع"!
وقال الأصمعي لأعرابي: أتهمز الفارة؟ قال: تهمزها الهرة١.
وقال الجاحظ: سمعت ابن بشير وقال له المفضل العنبري إني عثرت البارحة بكتاب وقد التقطته وهو عندي، وقد ذكروا أن فيه شعرًا، فإن أردته وهبته لك. قال ابن بشير: أريده إن كان مقيدًا "مشكولًا". قال: والله ما أدري أكان مقيدًا أو مغلولًا.... قال الجاحظ: ولو عرف التقييد لم يلتفت إلى روايته.
ومهما جهدت بالأعرابي أن ينطق بغير لحن قومه وإن كان أفصح منه، فإنه لا يستطيع إلا من ضعف؛ لأن تقليده في الصواب كتقليده في الخطأ واللغة إنما تؤخذ عن السليقة وهي سنة واحدة.
قال الأصمعي: جاء عيسى بن عمر الثقفي ونحن عند أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو، ما شيء بلغني عنك تجيزه؟ قال: وما هو؟ قال: بلغني أنك تجيز: ليس الطيب إلا المسك "بالرفع"، قال أبو عمرو: نمت وأدلج الناس! ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع، ثم قال: قم يا يحيى، يعني اليزيدي، وأنت يا خلف، يعني خلف الأحمر، فاذهبا إلى أبي المهدي "أعرابي الحجاز" فلقناه الرفع فإنه لا يرفع، واذهبا إلى أبي المنتجع "أعرابي تميم" فلقناه النصب فإنه لا ينصب.
قال: فذهبا فأتيا أبا المهدي فإذا هو يصلي، فلما قضى صلاته التفت إلينا وقال: ما خطبكما؟ قلنا: جئنا نسألك عن شيء من كلام العرب، قال: هاتيا، فقلنا: كيف تقول ليس الطيب إلا المسك "بالرفع"؟ فقال:"تأمرني بالكذب على كبر سني"! فقال له خلف: ليس الشراب إلا العسل، قال
١ تروي عنهم من ذلك نوادر كثيرة لا فائدة منها إلا بالفكاهة. فلم نفسح لها في هذا الفصل.