كان العرب قد بالغوا لعهد القرآن مبلغهم من تهذيب اللغة ومن كمال الفطرة، ومن دقة الحس البياني، حتى أوشكوا أن يصيروا في هذا المعنى قبيلًا واحدًا باجتماعهم على بلاغة الكلمة وفصاحة المنطق، وأنهم لأول دعوة١ من بلغائهم وفصحائهم، مع تباعد ديارهم بعضهم عن بعض، وتعاديهم واختلافهم في غير هذا الحس باختلاف قبائلهم ومعايشهم؛ لأن الكلام هو يدفعهم إلى المنافرة، ويبعثهم على المفاخرة، وما كان الكلام صناعة قوم إلا أصبتهم معه كالجمل المؤلفة يرد بعضها بعضًا ويدور بعضها على بعض، فيكون كل فرد منهم كأنه لفظ حي، وكأن معنى حياته في الألفاظ وفيه معًا.
وهذا أمر ثابت ليس فيه منازعة ولا فساد ولا التواء، ولم يظهر في أمة ظهوره في جاهلية العرب الأولى قبل الإسلام، وفي جاهليتهم الثانية من بعده، لا حين استفحل أمر الفرق الإسلامية واستحر الجدال بينهم، فأفسدوا عقولهم وأسقطوا مروءتهم إلا خواص واقتحموا تلك الخصومات حتى يبس ما بين بعضهم إلى بعض، وإن كان ليس بينهم إلا الدين والعقل.
فجاء القرآن الكريم أفصح كلام وأبلغه لفظًا وأسلوبًا ومعنى، ليجد السبيل إلى امتلاك الوحدة العربية التي كانت معقودة بالألسنة يومئذ وهو متى امتلكها استطاع أن يصرفها، وأن يحدث منها، وكانت رأس أمره وقوام تدبيره؛ إذ هي بصبغتها العقلية ومعناها النفسي؛ وهو لا ينتهي إلى هذه الوحدة ولا يستولي عليها إلا إذا كان أقوى منها فيما هي قوية به، بحيث يشعر أهلها بالعجز والضعف
١ هذا التعبير كالذي يقال له اليوم: "مستعد، أو رهين الإشارة".