كان الشعر إلى مائة سنة قبل الهجرة في أول عهده بالافتتان والتصرف، ولم يكن تم تهذيب اللغة على نحو ما صارت إليه لعهد القرآن، فكان طبيعيا أن لا ينصرف العرب إلى المباهاة به والمفاخرة بقائله منهم؛ ولكن لما جعل الشعراء يحتفلون ويتصرفون في اللغة ويتناولون أعذب ألفاظهم ثم يأتون مكة في موسم الحج فيعرضون أشعارهم على أندية قريش، فما استحسنوه منها روي وكان فخرًا لقائله في القبائل كلها؛ إذ يحضرون الموسم جميعًا؛ لأن كل قبيلة كان لها صنم في الكعبة تأتي لزيارته حتى زادت عدة الأصنام فيها على ثلاثمائة صنم, أصبح العرب بعد ذلك يفاخرون بشعرائهم، وصار الشاعر أيضًا يباهي بقبيلته ويغض من غيرها، فذلك دينه السياسي وديدنه، حتى لا يصدق الرواة أن شاعرًا يمدح قبيلة بينها وبين حيه عداوة، وكان أبو عبيدة إذا أنشدوه أبيات العرندس وهو أحد بني بكر بن كلاب التي يقال إنه مدح بها بني بدر الغنويين، ومنها البيت المشهور:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
يقول: هذا والله محال، كلابي يمدح غنويا؟ يعني عداوة الحيين "ص٢٩٦: شرح العيون" كان من ذلك أن انصرفوا إلى المنافرات وهي تزيد مادة الحرص في الطبائع، وتمكن غريزة الفخر في النفوس، فصاروا من حاجتهم للشعراء إلى حال كانوا إذا نبغ الشاعر في قبيلة أتت القبائل فهنأتها بذلك وصنعت الأطعمة, واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس وتتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم وذب عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادة لذكرهم؛ وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتح، وسنلم بشيء من أدلة ذلك في باب الهجاء.
ولا عجب بعد ما مر بك أن يكون الشعر عصبية في القبائل، ومن ذلك ما يقولون إن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة، فكان منهم مهلهل والمرقشان، والأكبر منهما عم الأصغر، والأصغر عم طرفة بن العبد، واسم الأكبر عوف بن سعد، واسم الأصغر عمرو بن حرملة، وقيل ربيعة بن سفيان؛ ثم كان منهم أيضا سعد بن مالك، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس، والأعشى، وخاله المسيب بن علس، ثم تحول الشعر إلى قيس، فمنهم النابغتان، وزهير بن أبي سلمى وابنه كعب، ولبيد، والحطيئة، والشماخ وأخوه مزرد، وخداش بن زهير؛ ثم استقر الشعر في تميم، ومنهم كان أوس بن حجر شاعر مضر في الجاهلية، لم يتقدمه أحد منهم حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه وبقي شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع.
وقال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح الشعراء لسانًا وأعذبهم، أهل السروات، وهن ثلاث -وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن- فأولها هذيل، وهي تلي السهل من تهامة؛ ثم بجيلة السراة الوسطى وقد شركتهم ثقيف في ناحية منها؛ ثم سراة الأزد أزد شنوءة، وهم بنو الحارث كعب بن الحارث بن نضر بن الأزد، وقوم يرون تقدمه الشعر لليمن في الجاهلية بامرئ القيس، وفي