للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الهجاء في الشعراء]

قد عرفت أن الشاعر لا يكون هجاء إلا وهو في معنى المؤرخ، فليس كل القبائل يعرف بعضها مثالب بعض، ولا كل الناس يعرف ذلك، فمتى سير الشاعر قصيدة فكأنه نشر كتابًا في أمة كلها يقرأ ويكتب، ومن أجل هذا لما استأذن حسان النبي صلى الله عليه وسلم أن يهجو قريشًا قبل إسلامهم ويسله منهم سل الشعرة من العجين، أمره أن يستعين بأبي بكر، ولم يكن في زمنه أعلم بالأنساب منه، حتى إن أنسب العرب إنما أخذوا عنه كما ستعرفه في موضعه.

ولمكانة ذلك الشعر من التاريخ، صار الراوية للأشعار لا يكون راوية حتى يكون نسابة عالمًا بالأخبار، وقد تغلب على بعضهم رواية المثالب خاصة كعقيل بن أبي طالب، وهو أحد الأربعة من قريش الذين كانوا رواة الناس للأشعار وعلماءهم بالأنساب والأخبار، وهم مخرمة بن نوفل، وأبو الجهم بن حذيفة، وحويطب بن عبد العزى، وعقيل هذا "ج٢: البيان" وممن تخصصوا بالمثالب والعيوب في الرواة: دغفل النسابة، والنخار العذري، وابن الكيس النمري، وصحار العبدي، وابن شرية، وابن أبي الشطاح وهشام بن الكلبي.

ولم يبلغ جرير مبلغه من الهجاء إلا لمكان علمه بالنسب والمثالب من جده الخطفي، وهو حذيفة بن بدر بن سلم. وكان الخطفي هذا من العرفاء العلماء بالنسب وبالغريب "ج١: البيان" وكذلك الفرزدق، كان هو شاعر الناس وراوية أخبارهم، وهما يكادان لشهرتهما يكونان فكي الهجاء فيما يلاك ويمضغ من الأعراض.

ولما كان الشعراء ألسنة قبائلهم ونوابها في السياسة العامة، كان هجاء بعضهم بعضًا لا يزال عاما حتى إذا ذهبت عصبية القبائل ووهنت عقدة الجاهلية وسكنت ثائرة الأحزاب، صار الهجاء كسائر أغراض الشعر: يقال فيه للبراعة وابتكار المعاني فاتخذ لحك الحزازات وشق المرائر وتحول إلى كذب وسخف وإفحاش وإقذاع وكان من هذا شيء في الجاهلية حين يكون الشاعر منبوذًا من قبيلته، أو حين يلتمس لنفسه الذكر في القبائل وشيوع المقالة باسمه، فيقصد الأسواق والمواسم؛ كالذي نقله السكري في شرح أشعار الهذليين قال: أقبل رجل من أهل اليمن شاعر يقال له حبيب -والناس بذي المجاز- يهجو الناس، فأشار له بعضهم إلى خباء أبي ذرة الهذلي حتى وقف عليه فرجز به فخرج إليه أبو ذرة من قبل أن يعرفه فأشار له بيده ورجز به أيضًا، ثم سأله عن اسمه فعرفه، فعاد إلى الرجز به، فطرده أهل اليمن؛ ثم كان الحطيئة وهو الحسب الموضوع، فسلح بالشعر سلحًا، ثم جاء جرير وطبقته فصار

<<  <  ج: ص:  >  >>