وكما أهلك نميرًا قول جرير يهجو الراعي:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابًا
وهذه القصيدة تسميها العرب: الفاضحة، وقيل: سماها جرير: الدماغة، وقد تركت بني نمير ينتسبون بالبصرة إلى عامر بن صعصعة ويتجاوزون أباهم نميرًا إلى أبيه عامر؛ هربًا من ذكر نمير، وفرارًا مما وسم به من الفضيحة والوصمة "ص٢٦ ج١: العمدة"، وكان بنو نمير من جمرات العرب الذين تجمعوا في أنفسهم ولم يداخلوا معهم غيرهم في أنسابهم بالمحالفة ونحوها؛ والجمرات هم بنو نمير؛ وبنو الحارث بن كعب؛ وبنو ضبة، وبنو عبس بن بغيض؛ قال المبرد في "الكامل": وأبو عبيدة لم يعدد فيهم عبسًا في "كتاب الديباج" ولكنه قال: فطفئت جمرتان وهما: بنو ضبة؛ لأنها صارت إلى الرباب فحالفت؛ وبنو الحارث؛ لأنها صارت إلى مذحج؛ وبقيت بنو نمير إلى الساعة؛ لأنها لم تحالف "ص٣٧٧ ج١: الكامل" وقد أجاب شاعرهم جريرًا فلم يغن عن قومه شيئًا.
وعلى الضد من ذلك خبر بني أنف الناقة؛ فإن الواحد منهم كان إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني قريع، فيتجاوز جعفرًا أنف الناقة ابن قريع بن عوف بن مالك؛ فما هو إلا أن قال الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا؟
حتى صاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به أصواتهم في جهارة "ص٢٩ ج١: العمدة". وقد بلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السبب عليهم وتخوفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب ويسب به الأحياء والأموات، أنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق؛ وربما شدوا لسانه بنسعة كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص حين أسرته بنو تميم يوم الكلاب، وأبياته في ذلك مشهورة "ج٢: البيان" وأسر رؤبة في بعض حروب تميم فمنع الكلام؛ فجعل يصرخ: يا صباحاه! ويا بني تميم؛ أطلقوا من لساني "ج٢: البيان".
ثم صاروا يستنجدون بالشعراء ليحضوا لهم الأشراف في رد الغارة وغيرها فيخشى الشريف إن هو لم يغثه أن يفضحه بهجائه "ص١٧٠ و١٧١ ج١: الحيوان".
وكما سلم بعض القبائل من الهجاء بالخمول والقلة، كغسان وغيلان من قبائل عمرو بن تميم سلمت بعض القبائل بالنباهة العالية من مضرة الهجاء فكأنها لم تهج، مثل نباهة بني بدر وبني فزارة، ومثل نباهة بني عدس بن زيد وبني عبد الله بن دارم، ومثل نباهة الذبان بن عبد المدان، وبني الحارث بن كعب، فليس يسلم من مضرة الهجاء إلا خامل جدا أو نبيه جدا "ج٢: البيان".
وذكروا عن حجناء بن جرير أنه قال لأبيه: يا أبت إنك لم تهج أحدًا إلا وضعته إلا التيم. فقال جرير: إني لم أجد حسبًا فأضعه ولا بناء فأهدمه "ج٢: البيان".
وقد سمر يزيد الرقاشي ذات ليلة عند السفاح فحدثه بحديث ساقه فيه أشعارًا هجيت بها ثلاث وأربعون قبيلة، وقد حكاه المسعودي في "مروج الذهب - ص٢" فالتمسه هناك.
وكان الشعراء يعرفون تاريخ الهجاء في القبائل حتى ليستطيعون أن يميزوا القبائل التي انتضلت بينها تلك السلام من القبائل التي تحاجزت فلم يكن بينهما هجاء، وقد أنشد الكميت بن زيد نصيبًا الشاعر فاستمع له، فكان فيما أنشده قوله يصف غليان القدر:
كأن الغطامط من غليها ... أراجيز أسلم تهجو غفارًا
"يشبه غليان القدر وارتفاع اللحم فيها بالموج الذي يرتفع". فقال لهلنصيب: ما هجت أسلم غفارًا قط، فاستحيا الكميت فسكت "ص ٣٣٥ ج١: الكامل".