الفرسان والشعراء ... ومن نوادر الرجال إسلاميين وجاهليين؛ وقد سلمت كعب بن عمرو؛ فإنه لم ينلها من الهجاء إلا الخمس والنتف.
ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء، وهذا من أول كرمها، كما بكي مخارق بن شهاب، وكما بكى علقمة بن علاثة، وكما بكى عبد الله بن جدعان "ص١٧٦ ج١: الحيوان"؛ أما مخارق بن شهاب فذكر في البيان أنه وفد رجل من بني مازن على النعمان بن المنذر، فقال له النعمان: كيف مخارق بن شهاب فيكم؟ قال: سيد كريم، وحسبك من رجل يمدح نفسه ويهجو ابن عمه، ذهب إلى قوله.
ترى ضيفها فيها يبيت بغبطة ... وجار ابن قيس جائع يتحوب
ولعله بكى لذلك؛ وأما علقمة بن علاثة فقد ذكر ابن بسام في "الذخيرة" أنه لما سمع قول الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
بكى وقال: أنحن نفعل ذلك بجاراتنا؟ وأما بعد الله بن جدعان، فئقد قال الجاحظ في "الحيوان": إنه بكى من بيت لخداش بن زهير ولم يذكره، ولم نقف عليه؛ وكان خداش قد هجاه من غير أن يكون قد رآه؛ وكذلك فعل دريد بن الصمة؛ لأنه رأى فيه شرفًا ونبلًا فأراد أن يضع شعره موضعه "ص ٢٥٤: سرح العيون".
ومن أسباب الهجاء في القبائل أيضًا أن يكون القبيل متقادم الميلاد قليل الذلة قليل السيادة؛ فيتهيأ أن يصير في ولد إخوتهم الشرف الكامل والعدد التام؛ فإنه يستبين حينئذ لكل من رآهم أو سمع بهم أضعاف الذي هو عليه من القلة والضعف، وتكون البلية في شرف إخوتهم؛ وكذلك عندهم كل أخوين إذا برع أحدهما وسبق وعلا الرجال في الجود والإفضال أو في الفروسة والبيان؛ فإنهم يقصدون بمآثر الآخر في الطبقة السفلى لتبين البراعة في أخيه، وقد يكون مع ذلك وسطًا من الرجال، فصارت قرابته التي كانت مفخرة هي التي بلغت به أسفل السافلين "ص١٧٩ ج١: الحيوان".
ولما صار للهجاء في القبائل هذا الشأن واعتقدوه سياسة، صار البيت الواحد يربطه الشاعر في قوم لهم النباهة والعدد والفعال، فيدور بهم في الناس دوران الرحى؛ كما أهلك الحبطات وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم قول الشاعر فيهم:
رأيت الحمر من شر المطايا ... كما الحبطات شر بني تميم
فلزمهم هذا القول؛ وكما أهلك ظليم البراجم قول الآخر:
إن أبانا فقحة لدارم ... كما الظليم فقحة البراجم
وكما أهلك بني عجلان قول النجاشي:
وما سمي العجلان إلا لقولهم ... خذ العقب واحلب أيها العبد واعجل