وبعد، فلا بد لنا من التنبيه على أنا في كل ما أسلفنا من القول في إعجاز القرآن أو الإشارة إلى بعض الوجوه المعجزة فيه، إنما أجملنا تفصيلًا، وأتينا بما أتينا به تحصيلًا، فاكتفينا من ذلك بما يرشد إلى أمثاله، واقتصرنا من كل وجه على أصل المعنى دون مثاله؛ فإن القرآن الكريم ليس كتابًا يتخير منه فيستجاد بعضه، ويصفح عن بعضه، إنما هو طريق مستبصر من أين أخذت فيه نفذت، ومن حيث تأديت به تهديت، وهو في كل معنى مما قدمناه سننه القائم، ومثاله الدائم.
ولقد صدفنا عن كثير مما اعترضنا وكان لا بد من انبساط القول فيه واتساع المادة به، مما لو تقصيناه لطال وبلغ بالقارئ مبلغ الملال، وعلى أنا لو ذهبنا نستقصي في استخراج كل معنى على حدوده وجهاته، ونستحمل النفس حاجة الشرح والتمثيل، والموازنة والتعليل، ونوسع هذا الباب اعتبارًا ونظرًا لخرجنا منه إلى ما يستنفذ العمر كله، وإن كنا لا نهاون بالنفس ولا نرفق بها في العمل؛ ولصرنا من بعد ذلك إلى فصل تعجز عنده المئونة، ويقصر مقدار العقل دونه، فإنما هو كتاب الله أحكمت آياته ثم فصلت من لدنه على حكمته وعلمه، فإن نفذ من أسراره في النظم والنسق، بقي ما وراء ذلك مما هو علة النظم والنسق؛ وإن استطعنا القول في كيفية إجماله، لم نستوعبه في كيفية تفصيله، إنا طريقنا في كل ذلك دنو المأخذ، وقرع الحجة، وقليل من كثير، وجهدنا فيه أن نلزم جانب الأصل اللغوي في الإعجاز حتى لا ندع أحدًا على لبس من هذا الأمر، الذي هو علة ما وراءه وله ما بعده؛ وغايتنا منه أن نكشف عن أسرار المعجزة التاريخية التي بقيت إلى اليوم معضلة في تاريخ الأرض؛ وهي تأليف العرب على تعاديهم وتنافرهم، والزحف بهم على قتلهم وضعف وسائلهم، وتوثبهم على فقرهم وغنى سواهم حتى اكتسحوا دولة الفرس، والتحفوا على مملكة الروم، وهما يومئذ الدنيا القديمة وهما العينان في رأس التاريخ، وقد توافقت جيوشهما والتحمت في مواطن القتال، وسعروا الأرض نارًا وحربًا مدة ثلاثة قرون أو حول ذلك؛ حتى استحكمت لهم صيغ الحروب، واستجمعوا فيها الرأي من جهاته، وكانت لهم الدربة على قيادة الجيوش، وكانوا أهل الرياسة والنباهة في كل ما وصفناه.
ولولا القرآن وما بسطنا في أمره في كل ما سلف، وأنه على تلك الجهات المعجزة، لما أدرك العرب في أمرهم دركًا، ولفاتهم من ذلك الفوت كله، وإنما العرب نفوسهم وقرائحهم، وإنما القرآن بلاغته وفصاحته؛ وعلى هذا قوله تعالى في خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} فذلك ما علمت.
ونحن نرجو في البيان الذي قصدنا إليه، أن نكون قد عرَّفنا على حقه وصدقه، وجئنا به من فصه ونصه، بلغنا من جملته ما لا يقصر عن الإفادة، إن قصر عن الإجادة، وما لا ينزل مقداره إلى حد