للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرواة الوضاعون للشعر]

[مدخل]

...

[الرواة الوضاعون للشعر]

وكان من الرواة قوم انفردوا بعلم قبائل العرب وأشعارها وأخبارها وما إليها. وغلب ذلك عليهم حتى لم تكن إليهم حاجة إلا فيه؛ وهؤلاء هم الذين فتقوا بألسنتهم هذه الفتوق في الأدب؛ وليس يخفى أن الحاجة وسيلة إلى الاختراع، وأن من كثرت إليه الحاجة في أمر من الأمور كان خليقًا أن يكون رأس هذا الأمر والغاية فيه، وهيهات هيهات لذلك إلا إذا استبد بفنه وأحكمه بأسره ووجد الناس عنده منه ما لا يجدون عند غيره. وقد كانت علوم أولئك النفر قاطبة تدور على الخبر والشعر، وليس في ذلك عندهم أكثر من الاستمتاع باللفظ الحسن والمعنى الطريف، مما لا يبنى عليه دين ولا يدخل الناس منه في خرج ولا يكون به من بعد إلا إفساد التاريخ العربي، وأهوِن بذلك ما دام هذا التاريخ قائمًا بالتأويلات والمفاخرات والمناشدات، وبكل ما نسخه الإسلام أو أنساه أو جاء بخير منه، وليست الغاية من أكثره إلا ضربًا من السمر ونوعًا من لهو الحديث، وقد تزيد فيه العرب أنفسهم وهم مصدر الرواية وقدوة الرواة١. وهذا هو السبب في أنك لا تكاد تجد للجاهلية تاريخًا صحيحًا، ولا ترى فيما تتصفحه إلا التكاذيب والمبالغات وما يتصل بها؛ لأن مثل هذا العلم قريب أسباب المطعمة لا يكف عنه يأس ولا يدفع دونه عي، ما دام قد تعاطاه أمثال أولئك الرواة من كل بصير بمذاهبه متحقق بمناقبه؛ ومن حذق شيئًا لم يصبر عن الزيادة منه.

فأما الأخباريون الوضاعون فستعرف أمرهم، وأما أهل الشعر فهم يضعون منه لثلاثة أغراض: للشواهد على العلوم -وقد مر الكلام عليها- والشواهد على الأخبار، والاتساع في الرواية.


١ في مثل هذا يقول الرواة: إذا كانت الكلمة حسنة استمتعنا بها على قدر ما فيها من الحسن!
٢ ولم يعرف قبل ابن إسحاق أحد وضع الشعر على أمم مختلفة، وإنما كان قبله يزيد بن ربيعة بن مفرغ، وهو في أيام يزيد بن معاوية، وقد وضع أشعارًا نسبها إلى تبع من ملوك حمير وعمل له سيرة، وسنذكر ذلك في الكلام على التزيد في الأخبار.

<<  <  ج: ص:  >  >>