وهؤلاء قوم كانوا في البادية بمنزلة الرواة في الحضر، من حيث هم مصادر العلم والقائمون عليه، فيتحققون بعلم الأخبار والآثار والأنساب والأشعار، وكان الرواة يأخذون عنهم ويسمونهم علماء البادية، وهم منهم في هذه العلوم كالأعراب الفصحاء في اللغة، كانت أسماؤهم دائرة في أفواه الرواة، بيد أن العلماء الذين دونوا الأخبار وصنفوا الكتب اكتفوا بنسبة الكلام إلى صدور الرواة ممن نقلوا عن علماء البادية: كالأصمعي، وأبي عبيد، وابن الكلبي وغيرهم، دون هؤلاء العلماء؛ لتحقق الرواة بالأمانة والضبط؛ ولأنهم لا يقدرون الألفاظ بمعانيها التاريخية؛ ولهذا لم نقف إلا على القليل من أسماء القوم، وعلى أن هذا القليل إنما جاء في عرض كلام مما يتعلق بالسمر ويدخل في باب الحكاية ... وقد رأينا في "الفهرست" لابن النديم أن لابن دريد كتابًا سماه "رواة العرب" ولا ندري من خبره شيئًا.
فمن هؤلاء الرواة: المسور العنزي، وسماك بن حرب؛ ومنهم ثم من علماء بني عدي: زرعة بن أذبول، وابنه سليمان، وأبو قيس، وتميم العدوي؛ وكلهم في أواخر القرن الأول؛ ومنهم أبو بردة وأبو الزعراء، وأبو فراس؛ وأبو سريرة، والأغطش؛ وكانوا في القرن الثاني، وأدركهم أبو عبيدة وطبقته وأخذوا عنهم.
ولا بد أن تكون منهم طائفة ممن عدوهم في فصحاء الأعراب، ولكنهم لم يترجموهم ولم ينبهوا عليهم ولم يذكروا ما أخذوه عنهم إن كان لغة أو خبرًا أو نسبًا أو شعرًا؛ كمحمد بن عبد الملك الفقعسي؛ فإنه معدود من فصحاء الأعراب، وقد ذكرناه ثمة، وهو من ذلك راوية بني أسد وصاحب مفاخرها وأخبارها، وعنه أخذها العلماء، والله أعلم.