المراد بهذا النوع ما يسميه الإفرنج epic، وهو عندهم ما تروى فيه الوقائع والحوادث على طريقة الشعر، ما لا يخلو من الغلو والإطراء، حتى يتميز عن التاريخ البحت؛ والنظم فيه قديم في الأمم التي اغتذى خيالها بالدين والعادات كالمهابهاراتا عند الهنود، والأوديسا عند اليونان، والإنياذا عند الرومان، وكذلك نظمت فيه شعراء الأمم المتأخرة كالفرنسيين والألمان والطليان والإنكليز، وعندهم في ذلك الملاحم المأثورة "ذكرت هذه اللفظة في باب الشعر الحكمي، وقد استعملها الجاحظ في الحوادث والوقائع التي يتضمنها الشعر، ثم نقلها أدباء المغاربة لما يقارب في المنظوم العامي معنى الشعر القصصي".
وللفرس والترك في تاريخهم الإسلامي منظومات من هذا النوع، أشهرها شاهنامة الفردوسي، وشاهنامة الشاعر التركي الملقب بالفردوسي الطويل، قال في "كشف الظنون": إنه نظمها في مليون وستمائة ألف بيت، وكتبها في ٣٣٠ مجلدًا، فلما عرضت على السلطان بايزيد العثماني أمر بانتخاب ثمانين مجلدًا وإحراق الباقي، فترك المؤلف بلاد الروم وذهب إلى خراسان فمات فيها كمدًا.
وفي كل ذلك شرح طويل لا موضع لبسطه هنا، ونحن إنما نتكلم عن العرب خاصة، ولقد حار المتأخرون الذين كتبوا في تاريخهم وآدابهم عندما ألموا بذكر هذا النوع والتمسوه في أشعارهم ثم قطع بهم دونه, كيف يعللون ذلك وكيف يتأولونه؛ فمنهم من زعم أن العرب نظموا فيه كثيرًا وضاع ما نظموه، فلم يبق لعهد التدوين والرواية إلا القليل مما ذكرت فيه أخبار الحروب؛ ومنهم من رجع إلى أبعد من ذلك وتعلق بذنب التاريخ فزعم أن سفر أيوب في التوراة ليس إلا منظومة غربية نقلت إلى العبرانية ولحق أصلها بدفائن العدم، والكلام في هذا المعنى لا يحمل على التاريخ، فإن حمل عليه خطا به إلى الخطأ؛ لأننا لا نتصور أن العرب خلقوا من فطرتهم شعراء ينحتون الأوزان ويؤلفون الكلام على هذا النحو الذي وصل إلينا، بل ذلك شيء أوجدته الحاجة إليه في عصر يعينه تأريخ الاجتماع كما أشرنا إليه من قبل، ولو ذهب عنا تاريخ الأندلس مثلًا ثم رأينا بعض الموشحات أكنا نزعم أن ذلك النمط قديم في عرب الجاهلية ونغفل دلالة اللغة التي نظمت بها الموشحات وحالة الاجتماع التي تشير إليها؟
ثم إن الرواة الموثوق بهم والعلماء "المفتشين" كالجاحظ وغيره يقطعون على الجزم بأنه لم يضع من شعر الجاهلية منذ جودوه على كثرة القبائل، ولا من أرجازهم، شيء كثير؛ والجاحظ يكرر هذا المعنى في مواضع من كتاب "الحيوان"، والتكرار أبلغ في التوكيد، فلو كان في طبيعة اللغة وحالة الاجتماع ما يدعو إلى نظم الوقائع الكبرى لما أغفلوه ولا ذهب عن الرواة خبره؛ وفي أيدينا أثر مما يشبه ذلك وهو قاطع في الدلالة التاريخية التي تؤخذ منه على أنه قائم بنفسه وأنه نوع صحيح الكفاية لا تدعو الحاجة لأكثر منه، والحاجة دائمًا أم الاختراع، وهذا هو الذي خصصناه بالكلام.