أكثر الهجاء من يومئذ فحشًا خالصًا وكذبًا مصمتًا وسبابًا محضًا، ثم كان كل متعاصرين من الشعراء يكون بينهما مثل ذلك ويعدونه من منافسة الحرفة وطبع الصناعة، فمن نظم الشاعر قصيدة نقضها الآخر عليه، ويسمون هذه القصائد بالنقائض، وأشهرها نقائض جرير والفرزدق، وهي محفوظة متدارسة، وقد نقل المبرد في "الكامل" شيئًا منها "ج١: ص٢٨٢".
وقالوا إن جنازة مرت بجرير فبكى وقال: أحرقتني هذه الجنازة! قيل: فلم تقذف في المحصنات؟ قال: يبدو لي ولا أصبر "ج٢: البيان"؛ فكذلك كان يبدو لمن في طبقته حتى صار الناس يستجيرون بقبر أبي الفرزدق من هجائه فيجيرهم "ج١ ص٢٩١: الكامل".
وقد نسب الفرزدق في آخر عمره وتعلق بأستار الكعبة وعاهد الله أن لا يكذب ولا يشتم مسلمًا، وذكر ذلك في شعره "ص٧٠ ج١: الكامل" وكان جرير مولعًا بقذف المحصنات يعدهن شطر الهجاء ومادة الإقذاع؛ وقد دعا مرة رجلًا من شعراء بني كلاب إلى مهاجاته فقال الكلابي: إن نسائي بأمتعتهن ولم تدع الشعراء في نسائك مترقعًا "ج١: البيان".
ولانطباع الشعراء على هذه الشراسة الشديدة والجرح العريض لما يدلون به من طول اللسان وإحجام الناس عن مخاشنتهم كان الأشراف يتجنبون ممازحة الشاعر خوف لفظة تسمع منه مزحًا فتعود جدا "ج١ ص٤٦: العمدة" كما كانوا يتقون من أنفسهم مأثور القول في المصيبة والمرزئة، خوف أن يسبق لسانهم بكلمة من التوجع فتؤخذ عليهم وتجري في الناس مثلًا مضروبًا وعيبًا منسوبًا.