للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأما البيت الثاني فقد أجمعوا على أنه في وصف طول الليل، ولست أراه كذلك، وإلا فلو تمطى كلب ما زاد في وصف طوله على هذه الألفاظ، وإنما أراد الشاعر ثقل الليل وفتوره، وأنه كلما هم أن ينجلي سقط، كما يفعل الذي يتمطى ثم يردف أعجازه ثم ينوء بكلكله. فالوصف حقيقة ممثلة وتصوير ناطق، وعلى ذلك المعنى تكون الاستعار أبلغ ما يمكن أن يقع في هذا الموضع، وما أخطأ من عده من التشبيه المضمر الأداة؛ لأنه به أليق.

ومن تصرفه بالاستعارة في شعره قوله:

وهر تصيد قلوب الرجال ... وأفلت منها ابن عمرو حجر

هر: هي المعروفة بابنة العامري وكان يشبب بها امرؤ القيس، وبفاطمة، والرباب، وهند، وفرتنا، ولميس؛ وسلمى، ومعنى البيت أن أباه أفلت منها، ولو رآها لصادته فيما تصيد، قالوا: واستعارة الصيد مع الهر مضحكة، ولو أن أباه من فارات بيته ما أسف على إفلاته منها هذا الأسف!.

فقد ألزموه الاستعارة كما ترى حتى قارنوا بينها وبين استعارة زهير في قوله: "ص١٨٣ ج١: العمدة".

ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا

ولكنهم جهلوه فيها هذا الجهل وكيف بمثله من مثله؟ والذي أرى أنهم غفلوا عن المعنى الذي قصد إليه؛ فإن هرا كانت من كلب، وكان امرؤ القيس في كلب وطيئ أيام نفاه أبوه، فهو إنما يتنادر عليه، وإذا خرج البيت على هذا المعنى كانت الاستعارة فيه متوسطة، ولكنها تكون سببًا لكناية من أبلغ الكنايات.

ومن استعارته البديعة كلمته التي كأنما قيد بها شهرته في هذه الحياة، وذلك قوله في الجواد: قيد الأوابد؛ ولقد حاول المولدون أن يجيئوا بمثلها، غير أنها بقيت مفردة، وذلك كقول ابن الرومي في الحديث:

شرك العقول وعقلة المستوفز

وقول المتنبي في صفة الجواد:

أجل الظليم وربقة السرحان

ورأيت لدريد بن الصمة كلمة تكاد تساويها في الحسن، وهي في قوله:

يا فارسًا، ما أبو أوفى إذا اشتغلت ... كلتا اليدين كرورًا غير وقاف

"عبر الفوارس" معروف بشكته ... كاف إذا لم يكن من كربة كاف

فالكلمة هي "عبر الفوارس" يريد بها أن الفوارس ترى منه ما يبكي أعينهم ويستعبرها "ص٢٥٥: سرح العيون".

وهذا وأمثاله مما يدل على فطنة الشاعر وحدة فؤاده، وأن له من قوة الفطرة ما يقوم مقام الصنعة؛ وتلك صفات يدل عليها كثير من كلامه، غير أن امرأ القيس إنما كان مبتدئًا فيما ابتدع، ولذلك لا يمكن أن يؤخذ البديع كله من شعره، وليس هذا بضائره ونحن الآن في الكلام عن استعاراته؛ ومن الاستعارة نوع اتفق علماء البديع أنها المقدمة في هذا الباب وليس فوق رتبتها في

<<  <  ج: ص:  >  >>