للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأن الجاحظ نسب هذا النوع إليه وعينه به وكان يكفي أن يقول: قال بشر فقط، ولأنه قد ظهر قبل بشر شعراء نظموا في أمثال هذه المعاني، ولكن على طريقة الشعر المقفى، ولم يرد لواحد منهم شيء من المزاوج، وكان أسهل عليهم لو عرفوه؛ وقد اشتهر هذا النمط بعد بشر، ونظم فيه ابن المعتز في أواخر القرن الثالث كتابه "بشر الإمام" في أرجوزة طويلة مثبتة في ديوانه، ثم كان حذو المتأخرين في المتون بعد ذلك على منظومة الإمام محمد بن عبد الله بن مالك المتوفى سنة ٦٧٢هـ علامة النحو واللغات الغريبة والآية في حفظ أشعار العرب، وهذه المنظومة هي الألفية الشهيرة في علم النحو، تبع فيها ابن معطي، قالوا: ونظمه أجمع وأوعب، ونظم ابن معطي أسلس وأعذب "ص٤٣٢ ج١: نفح الطيب". ولابن مالك منظومات أخرى غير الألفية، ولكن هذه هي أشهر المتون المنظومة، يكاد ذلك يكن إجماعًا.

أما الشعر الذي تنظم فيه الضوابط العلمية لسهولة حفظها، فأكثر ما يكون قطعًا وأبياتًا قليلة، والأغلب فيه أن لا يكون مزاوجًا، وقد وقفنا على مثال منه عند العرب، وهو قول طفيل الغنوي "يصف كيف تزجر الخيل فجمعه في بيت واحد" هكذا قال المبرد في "الكامل"، وقوله دليل على أن نظم الضوابط لم يكن معروفًا إلى زمنه، وإنما هو مما أحدثه المتأخرون:

وقيل اقدمي واقدم وأخ وأخري ... وها وهلا واضبر وقادعها هبي

وهذه كلها كلمات تزجر بها الخيل، ولم يتسع البيت للفظتين من هذا القبيل؛ هما هقب وهقط "ص١٦١ ج١: الكامل".

والمتأخرون من العلماء الذين يأبون أن يتركوا شيئًا غير متروك إلى أصله يزعمون أن أول من نظم المتون العلمية هو هرمس الحكيم الذي يزعم قوم من الصابئة أنه إدريس عليه السلام؛ ويقولون إنه أول من نظر في الطب وتكلم فيه وصنف لأهل زمانه "كتبًا بأشعار موزونة" بلغتهم في معرفة الأشياء العلوية والأرضية "ص١٣٨: سرح العيون".

هذا في نظم المتون والضوابط، أما الشعر الذي يحمل معاني التاريخ وأنواع الفنون على غير تلك الطريقة فإنما يجيء به المولدون على جهة الفخر بما يضمنونه، كقصيدة رياح بن سنيح الزنجي مولى بني ناجية، وكان فصيحًا، فلما قال جرير:

لا تطلبن خئولة في تغلب ... فالزنج أكرم منهم أخوالًا

تحرك رياح فذكر أكثر من ولدته من أشراف العرب في قصيدة مشهورة معروفة ومنها البيت السائر:

إن الفرزدق صخرة عادية ... طالت فليس تنالها الأجبالا

يريد طالت الأجبال فليس تنالها "ص٨ ج٢: الكامل". ومن هذا النوع القصيدة الحميرية التي نظمها نشوان الحميري صاحب "كتاب شمس العلوم"، وقد نشرها بعض المستشرقين "تاريخ العرب" وقد عد فيها من ملكوا من الحميريين وافتخر بقومه هؤلاء وصارت هذه القصيدة اليوم عند الباحثين في التاريخ العربي القديم لا يقاس بها شعر شاعر، لما فيها من الأسماء التاريخية.

<<  <  ج: ص:  >  >>