وقد ينظمون ذلك الشعر على جهة الفخر بالنظم نفسه وقوة التصرف كما فعل أبو العباس الناشئ المعروف بابن شرشير، وهو الناشئ الأكبر وكان متبحرًا في عدة علوم، وهو في الشعر من طبقة البحتري وابن الرومي وأضرابهما، قال ابن خلكان: وله قصيدة في فنون من العلم على روي واحد تبلغ أربعة آلاف بيت، وتوفي سنة ٢٩٣هـ؛ فلو أنه جعل هذه القصيدة في فنون من التاريخ والقصص ونحوها، لما خلا الشعر العربي إلى اليوم من النمط القصصي الذي نفاخر به الإلياذة وأمثالها في كل شعر غير عربي.
وكذلك فعل أبو الحسن الأنصاري الجياني المتوفى سنة ٥٩٣هـ في نظم كتابه "شذور الذهب في صناعة الكيمياء"؛ وقد قالوا فيه: إن لم يعلمك صنعة الذهب علمك صنعة الأدب؛ وقيل في الجياني: شاعر الحكماء وحكيم الشعراء.
ومما يحسن ذكره في هذا الموضع، توفية للفائدة، كتب الحكمة والأمثال التي نظمها المولدون لتسهيل حفظها ومدارستها؛ وأهم هذه الكتب كليلة ودمنة الذي عربه ابن المقفع؛ فقد نظمه أبان بن عبد الحميد اللاحقي شاعر البرامكة، ونظمه أيضًا ابن الهبارية البغدادي، وسمى كتابه "نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة"، وكلا الشاعرين مر ذكرهما؛ وكذلك نظمه الأسعد بن مماتي المصري ناظر الدواوين بالديار المصرية المتوفى سنة ٦٠٦هـ؛ ولابن الهبارية أيضًا كتاب "الصادح والباغم"؛ نظمه على أسلوب كليلة ودمنة؛ وهو أراجيز في ألفي بيت نظمها في عشر سنين؛ ولم نذكره في الشعر القصصي؛ لأن هذا الموضع أليق به؛ ومن منظومة السير أرجوزة ابن عبد ربه صاحب "العقد الفريد"، في أخبار الملك الناصر صاحب الأندلس؛ وسيرة صلاح الدين التي نظمها الأسعد بن مماتي المذكور؛ وذلك في الجملة ليس من الشعر، ولكنه نوع مما أخذنا في تاريخه، فكان لا بد من الإشارة إلى بعض أمثلته في التاريخ.