بفضل هؤلاء القوم، دخل أكثرهم فيما دخل فيه العبيد واليهود استسلامًا وإسلامًا، وحببت إليهم الأخلاق العربية حتى صار أشرافهم ممن أمسكوا عليهم دينهم يحجبون النساء ويقلدون المسلمين في الزي وكثير من العادات؛ ثم اندفعوا في ذلك بعد أن صارت الدولة للعرب، فلم تمض على الفتح ثلاثون سنة حتى أصبح الناس يخطون الكتب اللاتينية بأحرف عربية، كما كان يفعل اليهود بكتبهم العبرية، وما انقضى عمر رجل واحد حتى ألجأتهم الحاجة إلى ترجمة التوراة وقوانين الكنيسة إلى العربية، ليتمكن رجال الدين أنفسهم من فهمها.
وبعد أن ظهرت أبهة الملك في زمن الأمويين وسما فرع الحضارة العربية في تلك البلاد؛ تحول أهلها فيما تحول من طبيعتها، حتى كانت الغيرة يومئذ على الآداب اللاتينية أسخف ما يرمى به أهل السخف؛ وقد نقل روزي في كتابه "تاريخ المسلمين في إسبانيا" أن بعض رؤساء الدين المسيحي كان يضطرم سخطًا على أدباء المسيحيين أنفسهم؛ لأنهم بالغوا في تعصبهم للعربية حتى تناولوا الشعر والأدب والفلسفة تقويمًا لألسنتهم وتهذيبًا لملكاتهم بدلًا من أن يتذرعوا بذلك إلى تسفيه الأدب العربي ونقض المدينة الإسلامية، قال:"وكيف السبيل إلى إيجاد رجل من العامة يقرأ التفاسير اللاتينية على الكتب المقدسة، ومما يؤسف له أن نشء المسيحيين الذين نبغت قرائحهم لا يعرفون غير العربية وآدابها فهم يتداولون الكتب العربية ويجمعونها بالأثمان الغالية يؤلفون بها الخزائن الممتعة، وإذا حدثتهم بكتب دينهم وآداب لغتهم أعرضوا عنك أزورارًا وأنغضوا رءوسهم استهزاء؛ وهي أشد وأعظم من أن ينسى المسيحيون لغتهم وهي بقية الجنسية حتى لا تجد في الألف منهم واحدًا يحسن أن يكتب كتابًا إلى صديق له بأبسط عبارات اللغة اللاتينية؟ ".
وما جاء القرن الخامس حتى كان المجاورون للعرب من أهالي فرنسا وشمال إسبانيا ينكبون عن تناول الشعر اللاتيني ويكبون على التأديب بالشعر العربي، حتى صار فقراؤهم بعد ذلك وأهل الكدية منهم يمدحون بالقصائد والموشحات العربية على الأبواب ويستعطون بها في الطرق، فاعتبر كيف يكون وسط الأندلس إذا كانت هذه حال أقاصيها الأعجمية؟ ومنذ سقطت طليطلة سنة ٤٧٨هـ وكانت في يد يحيى بن ذي النون ودخلها ألفونس السادس الذي كانوا يلقبونه بملك الدينيين، أراد أن يستبقي ماء الحياة العربية في روح مملكته، وساعدته الفتن والنكبات فقذفت إليه من مضطهدي الفلاسفة وغيرهم، وبهم نبغ رجاله، كالسيد كامبدور الذي كان يجيد المنطق العربي كأنه عريق فيه؛ وكان يومئذ في طليطلة مدرسة عربية كان من أساتذتها محمد بن عيسى المقامي وأحمد بن عبد الرحمن الأنصاري وغيرهما، وبهذه المدرسة تماسكت العربية حتى أنشأ ريمون رئيس الأساقفة التراجمة بطليطلة، وبها رجعت العربية إلى الحياة.