الله إذا هو نظر فيه وأثبت حقيقته وقوي على تمييزها وكان ممن ينزلون على حكم النظر والمعرفة، فإنه لا يجد مناصًا من رد التاريخ والتكذيب له، ثم الإقرار بأن هذا القرآن إنما هو أثر من لغة قوم جاوزوا في الحضارة حد أهلها من سائر الأجيال, وبلغوا من أحوال المدنية أرقى هذه الأحوال، وكانوا من العلوم في مقام معلوم؛ لأن هذا الماء الصافي الذي يترقرق في عبارته، وهذا النظم الجيد الوثيق، وما اشتمل عليه من بدائع الأوصاف، وما فيه من روائع الحكمة ثم ما احتوى عليه من إشارات السماء إلى الأرض، وضراعة الأرض للسماء، إلى ما حله من معضلات الاجتماع، وكشفه من وجوه السياستين النفسية والقومية، لا يكون ألبتة في لغة أمة قد أناخت بها أخلاق البداوة في ساقة الأمم حتى عبدت الأصنام، ولم تعرف من الشرائع غير شريعة الإلهام، وما ملكها من ملوك الدهر غير سلطان الأوهام.
نقول: إذا هو قرأ هذه الآيات البينات ثم تدبرها وأحسن حملها وتأويلها ولم يكن كدر الحس ولا مريض الذوق، فإن أحرفها تسطع له من نور الأخلاق بما يرى فيه أمة تضج في الحضارة وتختبط، ومدنية تضطرب من أهلها وتختلط، فلو أن أعضاء المجمع العلمي الفرنسي لعهدنا أرادوا مخاطبة أمتهم التي أوهاها الترف بلينه، وأخذت في ظن الإثم بيقينه, ورقت فيها الأعراض وبدأ نسلها في الانقراض، وتغالبت في وجوه المدح والذم، وسبح شرف أهلها يغتسل في الدم. وهبت فيها الرذائل بأنواعها، ورمتها كل أمة من أمم الأرض بدائها واسترسلت أخلاق الفتنة بين جراثيمها، وأوشك أن يتصل ما بين تقيها وأثيمها, واجتمعت فيها النقائض اجتماع جوار، لا اجتماع نفار، من الإلحاد والإيمان، والصلة والحرمان، والحب الذي هو كالدين والعبادة إلى البغض الذي هو كالطبيعة والعادة، والائتلاف الذي ليس له تلاف، والإمساك الذي ليس له مساك، إلى غير مما هو ألوان صورتها
١ اتبعنا في كتابة هذه الآيات الكريمة رسم المصحف الشريف.