للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العرب، حتى كأنما زويت لهم جوانب الأرض، وكأنما كانوا حاسبين يمسحونها؛ لا غزاة يفتحونها؛ فلا يبتدئ السيف حساب جهة من جهاتها حتى تراه قد بلغ بالتحقيق آخره, ولا يكاد يشير إلى "قطر" من أقطارها إلا أراك كيف تدور عليه "الدائرة".

وإن هذا الأمر لحقيق أن تذهب من تعليله نفوس الحكماء في ألوان من المعاني متشابه وغير متشابه، فإنما هو أمر إلهي كيفما أدرته رأيت في جانبه الذي يليك ضوءًا كضوء الصواعق، وحركة كحركة الزلازل، وقوة كالتي تتسلط بها السماء على الأرض، فكأنك تتأمل منه صورة الطبيعة، أو الطبيعة المعنوية في عالم التاريخ. ولو أن رمال الدهناء١ نفضت على الأرض جنودًا عربية لما عدت أن تكون آفة اجتماعية تهلك الحرث والنسل، وتدع الشعوب متناثرة كبقايا البناء الخرب، ثم لا تكون إلا أيام يتداولونها بينهم حتى تتنفس الأرض من بعدهم فتذهب آثارهم الظالمة في حر أنفاسها، وتنقضي أعمالهم فتنطوي من الزمن في أرماسها، إذ كان لا يهجم على الأرض منهم أكثر من أمر البطون الجائعة وما إليها ... ولعمرك ما العرب وما غير العرب من الشعوب البادية إلا بطونههم، حتى لأحسبهم

إذا اجتمعوا كانوا معدة الأرض, وكان أهل السَّرف في فنون الملاذ من الحضريين أمعاءها.

وما أظن مرجع ذلك إلى غير القرآن، بل أنا مستبصر في صحة هذا المعنى، مستيقن أنه مذهب التعليل إلى الحقيقة بعينها؛ لأن القرآن هو صفي تلك الطباع، وصقل جوانب الروح العربية، حتى صارت المعاني الإلهية تتراءى فيها وكأنها عن معاينة. فكأنما كان العرب يقطعون الأرض في فتوحهم ليبلغوا طرفًا من أطراف السماء فينفذوا إلى ما وعدهم الله ويتصلوا بما أعد لهم.

ولو لم يكن القرآن قد سلك إلى ذلك مسلكه من الفطرة اللغوية في نفوسهم حتى استبد بها في مستقرها، وصرفها في وجوه معانيه -ما بلغ من القوم رأيًا ولا نية، ولأوشك أن يكون في مقامات البيان عندهم وما يهتف به شعراؤهم وخطباؤهم- ما يذهب به جملة ويمسح أثره في القلوب، ولا يدع له مساغًا إلى ما وراء السمع؛ لأن هؤلاء تنفث عليهم ألسنتهم بأفصح الفصيح وأبين البيان في رأي العرب، وإن لم يكن كلامهم بتلك المنزلة، ولكن الحمية والعصبية واللحمة ومؤاتاة الهوى، كلها فصيح وكلها بيان، وليس الشأن في اللغة وألفاظها ومعانيها، وإنما الشأن فيما يمكن أن تفهمه النفس من كل ذلك؛ وهي لا تفهم إلا ما يكشف عن طبائعها ويبين عن أخلاقها وعاداتها. ولولا اختلاف النفوس في هذا الفهم ما رأيت اللغة الواحدة عند أهلها كأنها في المعنى لغات متباينة؛ فرب كلمة من لغة رجلين وإذا سمعاها رأيتها كأنما هي ليست من لغة أحدهما، فلا تبلغ منه ولا تمسه، كأن تكون كلمة من باب الحفاظ يسمعها عزيز وذليل، أو لفظة من الكرم يلقاها جواد وبخيل.

أنت إذا أنعمت على تدبر هذا المعنى، وأطلت تقليب الرأي فيه، وكان لا يعتريك من الخواطر إلا ما أحكمه العقل, فإنك واجد منه سبيلًا إلى وجه من أبين وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، فهو قد سفه أحلام العرب، وخلع آلهتهم، وقمع طغيانهم، واشتد عليهم بالعنف محضًا بعد


١ من ديار بني تميم، وهي سبعة أجبل من الرمل، ويكثر ذكرها في كلام الشعراء.

<<  <  ج: ص:  >  >>