العرب، وكلهم قومه؛ لأنهم جميعًا يد على العجم، وعلى كل من حاربهم من الأمم؛ ولأن تناكحهم لا يعدوهم، وتصاهرهم مقصور عليهم. قالوا: والمشاكلة من جهة الاتفاق في الطبيعة والعادة ربما كانت أبلغ وأوغل من المشاكلة من جهة الرحم. نعم، حتى تراه أغب عليه عن أخيه، لأمه وأبيه، وربما كان أشبه به خلقًا وخلقًا وأدبًا ومذهبًا، فيجوز أن يكون الله تبارك وتعالى حين حول إسماعيل عربيا، أن يكون كما حول طبع لسانه إلى لسانهم وباعده من لسان العجم, أن يكون أيضًا حول سائر غرائزه، وسلخ سائر طبائعه فنقلها كيف أحب، وركبها كيف شاء، ثم فضله بعد ذلك بما أعطاه من الأخلاق المحمودة، واللسان البين بما لم يكن عندهم، وكما خصه من البيان بما لم يخصهم به، فكذلك يخصه من تلك الأخلاق ومن تلك الدلائل بما يفوقهم ويروقهم، فصار بإطلاق اللسان على غير التلقين والترتيب، وبما نقل من طبائعه إليهم ونقل إليه من طبائعهم، وبالزيادة التي أكرمه الله بها أشرف شرفًا وأكرم كرمًا.
ولو صح هذا وأمثاله لكان دليلًا على أن لغة القرآن متوارثة في قريش من لدن إسماعيل عليه السلام، وتكون قد بقيت زهاء خمسة وعشرين قرنًا وهي جامدة على واحدة؛ وهذا الرأي مدفوع في العقول، وإنما سوغه عندهم ما يريدونه من إعطاء هذه اللغة صفة إلهية لمنزلة القرآن منها، وما كان إلهيا فهو كذلك إلى الأبد؛ غير أن التاريخ لا دين له في نسقه الزمني، وإنما التحول والتنوع من سنن الله، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
والذي عندنا، أن المراد بانطلاق لسان إسماعيل بالعربية، وضع أصلها بما أضاف من لغة جرهم إلى لغة قومه؛ وبذلك انطلق لسانه من الكلام في مذهب أوسع منحى وأوضح دلالة؛ وهذا معنى ما ورد في الحديث من أنه أول من فتق لسانه "بالعربية المبينة" وذلك أمر خاص بالكمال الفطري لا يحتاج إلى تمرين ولا تلقين ولا تدريج، ولا تخريج؛ هذا إذا صح الحديث، إلا فإن إسماعيل علم من أعلام التاريخ الصحيح، وهو الرأي الذي أودع المعقول من تأريخ العدنانية أهل هذه اللغة، لا يتجاوزونه إلا إلى الحدس والتخمين؛ فلا جرم كان في الاعتبار أصل اللغة، وكانت كأنها منسوبة إليه نسبة تأريخية؛ لأن ما وراءه كأنه منقطع عن التاريخ؛ إذ هو تيه من الظن لا يعرف في أي موضع منه توجد الحلقة المفصومة من سلسلة التاريخ العربي.
وعلى هذا يصح لنا أن نقول: إن أول تهذيب حقيقي في العربية، يرجع إلى عهد إسماعيل؛ أما تنقيح اللغة قبل ذلك فإنما هو درجات من النشوء الزمني لا يمكن بوجه من الوجوه أن يحدد أو ينسب إلى فرد معين، كنسبتهم بعضه ليعرب بن قحطان مثلًا، إلا إذا صح التسلسل التاريخي حتى ينتهي إليه، وذلك غير صحيح.
والاستدلال على نسبة المنطق العربي إلى يعرب إنما هو استدلال لغوي فقط. تنبه إليه المجانسة اللفظية؛ وإلا فإن من المؤرخين من يقول إن يعرب هذا هو المعروف في التوراة باسم "يارح بن يقطان" وإذا وجدنا دلالة الإعراب -أي: الإبانة- في يعرب، فلا نجدها في يارح، لا بالنص ولا بالتأول.