الكبراء لأموالهم لا لأحسابهم، حتى قيل فيهم إنهم يمدحون بثمن ويهجون مجانًا.... وقد صار الهجاء من يومئذ كما قلنا ضربًا من الصناعة ونوعًا معدودًا من الشعر، وإن لم تكن إجادته في طبع كل شاعر، كما قالوا عن ذي الرمة، فقد كان أحسن الناس نسيبًا وأجودهم تشبيهًا وأوصفهم لرمل، وهاجرة، وفلاة، وماء، وقراد، وحية، فإذا صاء إلى المديح والهجاء خانه الطبع؛ وذلك الذي أخره عن الفحول، فقالوا: في شعره أبعار غزلان ونقط عروس "ص١٤: طبقات".
وأشهر المحدثين بالهجاء على هذا الوصف بشار بن برد، وكان إذا غضب وأراد أن يقول هجاء صفق بيديه وتفل عن يمينه ويساره "ص٢١٠: سرح العيون" ودعبل بن علي الخزاعي، وكان هجاء الملوك جسورًا على الخليفة متحاملًا لا يبالي ما صنع حتى عرف بذلك وطار اسمه فيه، وكان لذلك يقول عن نفسه إنه يحمل خشبة منذ كذا سنة لا يجد من يصلبه عليها، وابن الرومي علي بن عباس، وكان لسانه أطول من عقله حتى قتله الهجاء، وأكثر إجادته فيه؛ لأنه كان سلك طريقة جرير من الإطالة والإفحاش، فإن جريرًا أول من أطال الهجاء، وكان يقول: إذا هجوت فأضحك "ص ١٤٠ ج٢: العمدة" وابن بسام، وكان يهجو أباه وأقاربه، يستن في ذلك سنة الحطيئة الذي هجا أمه، وابن الحجاج البغدادي خبيث العراق؛ وأبو بكر المخزومي هجاء الأندلس في القرن الخامس؛ وكان أعمى شديد الشر كأنه صاعقة، وكان يهجو في كلامه من شعر وغير شعر؛ ويقول عن نفسه: لا تبديل لخلق الله. ومع سبقه في الهجاء كان إذا مدح ضعف شعره "ص٨٩ ج١: نفح الطيب"؛ وابن القطان المتوفى سنة ٤٩٨هـ كان هجاء لم يسلم منه الخليفة فمن دونه، وأبو القاسم [الشميشي] الأندلسي في القرن السادس وقد جمع هجاءه في ديوان سماه "شفاء الأمراض في أخذ الأعراض" وعلي بن حزمون هجاء المغرب في أوائل القرن السابع وكانوا يتدارسون هجاءه حتى لم تخل بلدة في المغرب من شعره "ص١٩٦ المعجب" وابن عنين هجاء مصر في القرن السابع. قال المقري في "نفح الطيب": وله ديوان سماه "مقراض الأعراض" ولكن ابن خلكان وكان معاصرًا له ورآه قال: إن المقراض قصيدة طويلة جمع فيها خلقًا كثيرًا من رؤساء دمشق، وقد نفاه صلاح الدين الأيوبي إلى اليمن لإفحاشه في هجاء الناس، وتوفي سنة ٦٣٠هـ.
فهؤلاء أشهر أهل الهجاء لغلبته على شعرهم وإتيانهم فيه بالأوابد وذهابهم في معاريضه كل مذهب، وهم في المحدثين كالذين عدهم أبو عبيدة في الإسلاميين والجاهليين وإن كان من عداهم كلهم يهجون؛ ومن الشعراء قوم يسمونهم المغلبين وهم الذين غلبوا بالهجاء وإن كان ممن ليسوا إليهم في الشعر ولا قريبًا منهم، ومعنى المغلب عندهم الذي لا يزال مغلوبا. قال ابن رشيق: ومنهم نابغة بني جعدة، وقد غلب عليه أوس بن مغراء القريعي وغلبت عليه ليلى الأخيلية.... وقد علم الكافة ما صنع جرير بالأخطل والراعي جميعًا.. ومن المغلبين: الزبرقان، غلبه عمرو بن الأهتم وغلبه المخبل السعدي وغلبه الحطيئة، وقد أجاب الاثنين ولم يجب الحطيئة، ومنهم تميم بن أبي مقبل، هجاه النجاشي فقهره وغلب عليه، وهاجى النجاشي عبد الرحمن بن حسان فغلبه عبد الرحمن وأفحمه..... ومن مغلبي المولدين على جلالته بشار بن برد، فإن حماد عجرد وليس من رجاله ولا أكفائه هجاه فأبكاه ومثل به أشد تمثيل، وعلي بن الجهم هاجى أبا السمط مروان بن أبي الجنوب فغلبه مروان،