فيهم من يعرف ما يقول، إلا رجلًا أندلسيا اسمه مالك بن وهيب، وكان متحققًا بأجزاء الفلسفة؛ وقد شارك في جميع العلوم، غير أنه لم يكن يظهر إلا ما ينفق في ذلك الزمان.
وقد كان من وراء ذلك وتشعب هذه الفروع [واستبحار] هذا العلم أن الأمير يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن المتوفى سنة ٥٩٥هـ من أمراء الموحدين, لما نظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله ووجد في المسألة الواحدة أربعة أقوال وأكثر لا يعرف في أيها يكون الحق حمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث, [وأراد] نحو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة، فأمر بإحراق كتبه بعد أن يجرد ما فيها من الحديث والقرآن؛ حتى لقد كان يؤتى منها بالأحمال فتوضع وتطلق فيها النار، وتقدم كذلك إلى الناس بترك الاشتغال في علم الرأي والخوض في شيء منه، وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة؛ وأمر من عنده من المحدثين باستخراج مجموع من مصنفات الحديث العشرة، كالصحيحين والترمذي والموطأ وغيرها، فكان يمليه بنفسه على الناس ويأخذهم بحفظه، وجعل لمن حفظه الجعل السني من الكساء والمال؛ فحفظه الخواص والعوام "ص١٨٤: المعجب" وكان ذلك في سنة ٥٨٤هـ.
غير أن الأمير علي بن يوسف لم يكن منصرفًا عن الأدب، إذ لا عداوة بينه وبين الفقه، فكان يستدعي أعيان الكتاب من جزيرة الأندلس، وكان عنده من مشاهيرهم أبو القاسم المعروف بالأحدب، وأبو بكر محمد المعروف بابن القبطرنة، وأبو عبد الله محمد بن أبي الحضال وكان صاحب المكانة لديه، لمشاركته في علوم الفقه، وأخوه أبو مروان، وعبد المجيد بن عبدون وغيرهم.
وكذلك كان أخوه إبراهيم بن يوسف بن تاشفين قد عقد للأدب في ذلك الجو سماء أدار فلكها واستوى على عرشها فكان ملكها، وهو الذي ألف له الفتح بن خاقان كتابه الشهير الموسوم بـ"قلائد العقيان"، وكان يتودد في أوائل القرن السادس من خلفتهم ملوك الطوائف ومن تركهم أبوه من العلماء والشعراء والكتاب، وقد ذكر كثير منهم.
ولم يزل [أمر] الأدب [يتردد] بين الأندلس وبر العدوة، حتى أعاد أمراء الموحدين مجده وعزه، وكان أولهم بعد المؤمن الذي ولي سنة ٥٣٤هـ؛ وكان من أشهر شعراء الأندلس في هذا الزمن: ابن حمديس، وابن الزقاق، وابن خفاجة، وابن بقي، والفيلسوف أبو بكر بن الصائغ، وأبو الحسن جعفر بن الحاج الميورقي الشاعر الشهير، وابن الصفار القرطبي، وغيرهم.