الرابع، بعد زمن عبد الرحمن الناصر "٣٠٠-٣٥٠هـ" وهو الذي تجرأ على لقب الخلافة فكان أول من انتحله بالأندلس، وذلك عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق، واستبد موالي الترك على بني العباس. وقد تعاور الدولة العباسية في زمن هذا الخليفة المقتدر والقاهر بالله والراضي بالله، وهو الخليفة الشاعر، والمتقي لله والمستكفي والمطيع الذي غلب على أمره معز الدولة بن بويه ولم يكن له أمر ولا نهي ولا خلافة تعرف، فكان هذا الاضطراب في المشرق علة في تحريك المدنية والحضارة إلى المغرب، حتى استفحل أمرهما هناك؛ لأن الخلافة التي تقوم بعد أن بلغت الحضارة العباسية إلى منقطعها لا تكون خلافة بلا شيء، بل لا يكفي فيها أن تضاهي الحضارة العباسية، وقد كان اندفاع هذا التيار سببًا في ظهور الفلسفة من مغاصتها وجريانها على أعين الناس، وقد أرسل الخليفة عبد الرحمن إلى القسطنطينية، وكان عاهلها القيصر رومانوس؛ وإلى العراق والحجاز والشام ومصر وأفريقية من يشتري له الكتب ويحصل له من ذخائرها وأصولها المهمة، حتى قيل إن عاهل القسطنطينية وجد من أسباب الحظوة لدى هذا الخليفة أن يهدي إليه نسخة بديعة من كتاب الحشائش الذي ألفه ديسفوريدس العالم النباتي المشهور، وقد كانت مكتوبة بالخط الإغريقي مصورة فيها الحشائس كلها بالذهب، وأهداه كتابًا آخر لهرشيوس صاحب القصص، وهو تاريخ للروم في أخبار الدهور وقصص الملوك وطبقات الأطباء في كتب أخرى، وكان ذلك سنة ٣٣٧هـ.
ولكتاب ديسفوريدس هذا شأن عند العرب، وقد نقله عن اليونانية اسطفان بن باسيل أيام المتوكل العباسي وترك أسماء كثير من العقاقير على لفظها اليوناني، إذ لم يحسن تعريبها، ووقعت هذه النسخة العربية إلى الأندلس، فلخما أهدي الكتاب إلى الناصر أرسل إلى ملك القسطنطينية في أن يبعث إليه براهب يعرف اليونانية واللاتينية، وكان في الأندلس من يحسن هذه اللغة، فبعث إليه راهبا اسمه نقولا وصل إلى قرطبة سنة ٣٤٠هـ فتعاونوا على استخراج ما فات ابن باسيل, ثم جاء ابن جلجل الطبيب الأندلسي في آخر القرن الرابع فألف كتابا فيما فات ديسفوريدس من أسماء العقاقير والأدوية، جعله ذيلًا على ذلك الكتاب.
وبذلك صار من مفاخر الأندلسيين يومئذ اتخاذ المكاتب للمنفعة والزينة معًا، حتى إن الكتاب ربما غولي فيه لجلده ونقشه وحسن خطه؛ لأنها مظاهر الزينة، وقد كان الناصر أندى الناس كفا على الشعراء والكتاب وأهل الموسيقى وغيرهم، وتولى حماية من يشتغل بعلوم الفلسفة، حتى طارت شهرة قرطبة في أوروبا فأمها الناس أفواجًا في زمنه وزمن ابنه الحكم، واختلطوا بالأندلسيين في حلقات العلم، ولا يتم ذلك إلا في عصر تكون شجرة الفلسفة قد مدت عليه ظلها الوارف، ومن أشهر أولئك الراهب جوبرت "٩٣٠-١٠٠٤م" الذي ارتقى بعد ذلك إلى العرش البابوري باسم البابا سليفسترس الثاني وقد وفد في زمن الحكم "٩٨ ج١: تاريخ الأدب عند الإفرنج والعرب".
ولسنا نفيض في وصف زمن الناصر وإقبال الوفود عليه من ملوك أوروبا والملوك المتاخمين له ومخاطبته في أمر الهدنة والسلم والتماس رضاه وتقبيل يده، ولا في وصف المجلس التاريخي العظيم الذي أعده لاستقبال تلك الوفود، فإن حواشي التاريخ ليست من شرطنا في هذا الكتاب، وإنما نقول