إن زمن هذا الخليفة كان شباب الأدب، ولغلبة العلوم عليه من اللغة والنحو والحديث والفلسفة لم يكثر شعراؤه كثرتهم في أواخر هذا القرن وفي القرنين الخامس والسادس. وقد كان من تأثير ذلك أن صار أكثر الفقهاء وسائر أصناف العلماء رواة للشعر والأخبار، واستفاض ذلك إلى آخر عصور الأندلس، فنشأ من مشاهيرهم مثل أبي مروان عبد الملك الطبي، وأبي الوليد الباجي، وأبي أمية إبراهيم بن عصام، وأبي حزم الظاهري، وأبي بكر الطرطوشي، والحافظ الحميدي، وابن الفرضي، وغيرهم؛ حتى إن من لم يكن فيه هذا الأدب من العلماء كانوا يعدونه غفلًا مستثقلًا. ولم يكن يشتهر بذلك قبلهم إلا القليل من الفقهاء، كعبد الملك بن حبيب المتوفى سنة ٢٣٨هـ والقاضي منذر بن سعيد المتوفى سنة ٣٣٥هـ وكانوا يقولون في عبد الملك إنه عالم الأندلس وإن عيسى بن دينار فقيهها؛ وأشهر شعراء الناصر: ابن عبد ربه صاحب "العقد الفريد" المتوفى سنة ٣٢٨هـ، وهو الذي نظم بعض غزواته في أرجوزته المشهورة، وحاجبه أحمد بن عبد الملك بن عمر بن أشهب، ووزيره عبد الملك بن جهور، وآخرون.
ولما ولي بعد الناصر ابنه الحكم المستنصر "٣٥٠-٣٦٦" جرى في طريق أبيه وأربى على الغاية، فكان جماعًا للكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد قبله من الملوك، حتى بلغ عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعة وأربعين، في كل واحدة عشرون ورقة، ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين، وكان يبعث إلى الأقطار في شراء الكتب أناسًا من التجار، وبعث في كتاب "الأغاني" إلى مصنفه أبي الفرج، وكان نسبه في بني أمية، وأرسل إليه فيه بألف دينار ذهبًا، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق، وله من أمثالها أشياء؛ وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، وقد حققوا أنها بلغت سبعين مكتبة إلا ما يذكر عن الناصر العباسي بن المستضيء. قال ابن خلدون: ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البرير، وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر، ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوة، وقد آثر ذلك الحكم على لذات الملوك، فاستوسع علمه، ودق نظره، وجمت استفادته، وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذيا نسيج وحده؛ وكان ثقة فيما ينقله، وقلما يوجد كتاب من خزائنه إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان، ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته وغرائب أخرى لا تكاد توجد إلا عنده لعنايته بهذا الشأن. وإذا كان الحكم قد امتاز بشدة النظر في علم الحدثان: التنجيم "ص٩٣ ج٢: نفح الطيب" وهو من اللهو الشبيه بالباطل، فما ظنك به في غيره من علوم القوم؟ وإن مبلغ العلم لا يكون دائمًا إلا مبدأ العناية بالعلم، فعلى قدر ما يستوفي العالم يكون شرهه إلى الزيادة، وعلى مقدار هذا الشره تكون العناية بمن عنده شيء مما يوفي حق الرغيبة ويغني من حاجة الطلب؛ فإذا كانت خزائن الحكم تحفل بأربعمائة ألف مجلد، كما قيل، "ص١٨٤ ج١: نفح الطيب" حتى إنهم لما نقلوها أقاموا في ذلك ستة أشهر؛ فهل يكون عصره إلا عصر العلماء والأدباء الذين هم مصانع الكتب على الحقيقة؟
أما الشعر في زمنه فإنا إذا ذهبنا نقلب كتب التاريخ التي بين أيدينا لم نكد نعرف من مشاهير