والفلسفة، فإن لم يعثر على أحد منهم فالتفتيش بين الظنون والأوهام؛ لأنهم اتقوا صولة العلوم العربية على المذهب الكاثوليكي.
وقد اتخذوا فيه من أنواع التعذيب والاتهام المريب ما ترك في الكتب من بعدهم صفحة من تاريخ جهنم.... وليس من حق كتابنا تفصيل ولا إجمال لتلك الفظائع والمنكرات التي اقترفها رجال محكمة التفتيش وملوك الكثلكة لذلك العهد، مثل شارلكان وفيليب الثاني وفيليب الثالث، ونالوا بها المسلمين واليهود والمستأمنين؛ فذلك مما خلد لهم الخزي في تاريخ قومهم أنفسهم؛ ولكنا نجتزئ بذكر ما نال العربية من أولئك المتنطعين، فإنهم بعد أن طردوا اليهود من الموت إلى الجوع والفقر سنة ١٤٩٢م وأباحوا أموالهم، وطردوا المسلمين من الموت إلى الموت سنة ١٥٠٢م؛ إذ حرم عليهم أن يأخذوا في طريق تفضي إلى بلد إسلامي قرر مجمع لاتران في هذه السنة "١٥٠٢م" أن يلعن كل من ينظر في فلسفة ابن رشيد -وهم يريدون بهذه التسمية كل ما لديهم من علوم الفلسفة العربية- وطفق الدومينكان يتخذون من ابن رشد ولعنه ولعن من ينظر في كلامه صفة من صفات الزلفى والعبادة؛ وبعد ذلك أحرق الكردينال إكسيملس في غرناطة ثمانية آلاف كتاب [خطي] ، ثم صدر أمره سنة ١٥١١م أن تباد كتب العرب من عامة البلاد الإسبانية، فتم ذلك في زهاء نصف قرن، وكأنما كانت حرارة تلك القلوب هي التي تحرق الكتب.... ولولا المنقولات منها إلى العبرية واللاتينية لما بقي من أثر العلوم العربية مشيد ولا طلل.
وبقيت بعد ذلك كتب عربية فيخزانة دير الأسكوريال فأراد ديوان التفتيش أن يزيد بها شعلة من شعل نقمته، لولا أن تلطف الماركيز فيلادا فحال دون إحراقها، ولا يزال أكثرها باقيًا إلى اليوم.
وكان المتنصرون من المغاربة في ذلك العهد يكتبون العربية بأحرف إسبانية، وهم أذلاء محتقرون من أنفسهم ومن المسيحيين، فحظر عليهم فيليب الثاني سنة ١٥٥٦م استعمال العربية، وأرادهم على أن ينزعوا من أسمائهم التراكيب العربية, وأن يقلدوا المسيحيين في زيهم حتى لا يعلم بهم إلا أنفسهم؛ ولبثوا يسومون المغاربة عذاب الهون حتى طردت آخر فئة منهم سنة ١٠١٧هـ وقد وصل ذلك المقري في "نفح الطيب" ص٦١٧ ج٢.
آخرة العربية:
وبعد ذلك زهاء قرن من الزمن صار فيه تعلم العربية مظنة الإلحاد ولم تبق مدرسة فريلنك لطغمة الفرنسيسكان في أشبيلية من أساليب تعلمها إلا أثرًا ضئيلًا وكثر أن يكون قليلًا؛ فكان حسب الطالب منها أن يحسن لفظ بعض الأسماء العربية حتى يخرج بذلك إلى أفريقية داعية للنصرانية، وإن كان قد بقي من الإسبانيين من يشتغل من ذلك فهو يضيفه إلى الأعمال التي بينه وبين الله ولا يأخذ في ذلك إلا سرا.
جاء عصر شارل الثالث "١٧٥٩-١٧٨٨م" ويلقبونه ملك الفلاسفة؛ فأراد أن يصل آخرة العربية بأولها ويعيد زمنًا رآه مريضًا لم يمت، فاستدعى لذلك رهبانًا موارنة من سورية وبسط لهم يده في البذل والعطاء، وتقدم إليهم في تعليم الإسبانيين لغتهم الدارسة، ولكن ما عسى أن تكون تسع