للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن ذلك كان قبل موته عليه السلام بأحد وثمانين يومًا، في سنة إحدى عشرة للهجرة، وأي ذي كان فإن مدة نزول القرآن توفي على العشرين سنة. وإنما هي الحكمة التي أومأنا إليها في مذهب إعجازه، وحكمة أخرى معها، وهي استدراج العرب وتصريف أنفسهم بأوامره ونواهيه على حسب النوازل وكفاء الحادثات، ليكون تحولهم أشبه بالسنة الطبيعية كما ينمو الحي من باطنه، وسيقع تفصيل هذا المعنى فيما يأتي:

وكان بعض الصحابة يكتبون ما ينزل من القرآن ابتداء من أنفسهم، أو بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم فيخطونه على ما اتفق لهم يومئذ من العسب والكرانيف واللخاف١ والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع من الشاة والإبل، وكل ما أصابوا من مثلها مما يصلح لغرضهم، يكتب كل منهم ما تيسر له أو يسرته أحواله. ولكن ما ليس فيه ريب أن منهم قومًا جمعوا القرآن كله لذلك العهد، وقد اختلفوا في تعيينهم، بيد أنهم أجمعوا على نفر، منهم: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وهؤلاء كانوا مادة هذا الأمر من بعد، فإن المصاحف حتى اختصت بالثقة كانت ثلاثة: مصحف ابن مسعود، ومصحف أبي، ومصحف زيد، وكلهم قرأ القرآن وعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما ابن مسعود فقرأ بمكة وعرض هناك، وأما أبي فإنه قرأ بعد الهجرة وعرض في ذلك الوقت، وأما زويد فقرأه بعدها وكان عرضه متأخرًا عن الجميع، وهو آخر العرض إذ كان في سنة وفاته صلى الله عليه وسلم وبقراءته كان يقرأ عليه الصلاة والسلام وكان يصلي إلى أن لحق بربه، ولذلك اختار المسلمون ما كان آخر كما ستعرفه.

أما علي بن أبي طالب فقد ذكروا أن له مصحفًا جمعه لما رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي "الفهرست" لابن النديم أنه رأى عند أبي يعلى حمزة الحسيني مصحفًا بخط علي يتوارثه بنو حسن، ونحن نحسب ذلك خبرًا شيعيا؛ لأنه غير شائع.

وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن في الصدور، وفيما كتبوه عليه، ثم نهض أبو بكر بأمر الإسلام، وكانت في مدته حروب أهل الردة، ومنها غزوة أهل اليمامة، والمحاربون أكثرهم من الصحابة ومن القراء، فقتل في هذه الغزوة وحدها سبعون قارئًا من الصحابة "ويقال سبعمائة"، وكان قد قتل منهم مثل هذا العدد ببئر معونة٢ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهال ذلك عمر بن الخطاب، فدخل على أبي بكر رحمهما الله فقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة يتهافتون تهافت الفراش في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطنًا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا، وهم حملة القرآن، فيضيع القرآن وينسى ولو جمعته وكتبته! فنفر منها أبو بكر، وقال: أفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتراجعا في ذلك، ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت. قال زيد: فدخلت عليه وعمر مسربل؛ فقال لي أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى


١ العسب: جمع عسب؛ وهو جريد النخل: كانوا يكشطون الحموص عنه ويكتبون في الطرف العريض. والكرانيف: جمع كرنافة "بالكسر والضم" وهي أصول السعف الغلاظ، واللخاف: جمع لخفة "بفتح فسكون" وهي صفائح الحجارة.
٢ موضع قرب المدينة يقال إنه لهذيل، وقيل لسليم.

<<  <  ج: ص:  >  >>