أمر فأبيت عليه؛ وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه اتبعتكما، وإن توافقني لا أفعل، فاقتص أبو بكر قول عمر وعمر ساكت، فنفرت من ذلك، وقلت: يفعل ما يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لو فعلتما ذلك؟ فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شيء والله، ما علينا في ذلك شيء. وقال زيد: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب.
وهذا الذي فعله أبو بكر كأنما استحيا به طائفة من القراء الذين استحر بهم القتل بعد ذلك في المواطن التي شهدوها، ولم يعد به ما وصفنا، ولذا بقي ما اكتتبه زيد نسخة واحدة، وهو قد تتبع ما فيها من الرقاع والعسب واللخاف ومن صدور الرجال، إنما ائتمنه أبو بكر لأنه حافظ؛ ولأنه من كتبة الوحي، ثم لأنه صاحب العرضة الأخيرة؛ وربما كان قد أعانه بغيره في الجمع والتتبع؛ فإن في بعض الروايات أن سالمًا مولى أبي حذيفة كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر، أما الكتابة فهي لزيد بالإجماع.
وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر ينتظر بها وقتها أن يحين، حتى إذا توفي سنة ١٣هـ صارت بعده إلى عمر، فكانت عنده حتى مات، ثم كانت عند حفصة ابنته صدرًا من ولاية عثمان، ويومئذ اتسعت الفتوح وتفرق المسلمون في الأمصار، فأخذ أهل كل مصر عن رجل من بقية القراء.
فأهل دمشق وحمص أخذوا عن المقداد بن الأسود، وأهل الكوفة عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى الأشعري -وكانوا يسمون مصحفه لباب القلوب- وقرأ كثير من أهل الشام بقراءة أبي بن كعب، وكانت وجوه القراءة التي يؤدى بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل عليها، كما سيمر بك، فكان الذي يسمع هذا الاختلاف من أهل تلك الأمصار -إذا احتوتهم المجامع أو التقوا في المواطن على جهاد أعدائهم- يعجب من ذلك أن تكون هذه الوجوه كلها على اختلاف ما بينها في كلام واحد، فإذا علم أن جميع القراءات مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أجازها، لا يمنع أن يحيك في صدره بعض الشك وأن ينطوي منها على شيء, وإذا هو كان قد نشأ بعد زمن الدعوة وبعد أن اجتمع العرب على كلمة واحدة، فلا يلبث أن يجري ذلك الاختلاف مجرى مثله من سائر الكلام، فيرى بعضه خيرًا من بعضه، ويظن منه الصريخ والمدخول والعالي والنازل، والأفصح والفصيح، وأشباه ذلك، ويعتد ما يراه في القرآن من القرآن، وهذا أمر إن هو استفاض فيهم ثم مردوا عليه خرجوا منه ولا ريب إلى المناقضة والملاحاة وإلى أن يرد بعضهم إلى بعض هذا يقول: قراءتي وما أخذت به وذلك يقول: بل قراءتي وما أنا عليه! وليس من وراء هذا اللجاج إلا التكفير والتأثيم، ولا جرم أنها الفتنة لا تفنأ بعد ذلك من دم.
ولقد نجمت هذه الناشئة يومئذ، فلما كانت غزوة إرمينية، وغزوة أذربيجان، كان فيمن غزاهما مع أهل العراق حذيفة بن اليمان، فرأى كثرة اختلاف المسلمين في وجوه القراءة، أنهم لا يجرون من ذلك على أصل في الفطرة اللغوية كما كان العرب يقرءون بلحونهم، ورأى ما يبدر على ألسنتهم حين يأتي كل فريق منهم بما لم يسمع من غيره، إذ يتمارون فيه حتى يكفر بعضهم بعضًا، ولم ير عندهم نكيرًا لذلك ولا إكبارًا له، بل كانوا قد ألفوه بين أنفسهم، وصار من عاداتهم وأمرهم، ففزع إلى عثمان فأخبره بالذي رأى، وكان عثمان قد رفع إليه أن شيئًا من ذلك يكون بين المسلمين الذي يقرئون الصبية