للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويأخذونهم بحفظ القرآن فينشئون وبهم من الخلاف بعضهم على بعض، فأعظم رحمه الله أمر هذه الفتنة، وأكبره الصحابة جميعًا؛ لأن الاختلاف في كتاب الله مَدْرجة إلى مخالفة ما فيه، ومتى أهملوا بعض معانيه لم يكن بد أن يتصرفوا ببعض ألفاظه، وإنما هو اجتراء واحد فيوشك أن يكون ذلك مساغ للتحريف والتدبيل، فأجمعوا أمرهم أن ينتسخوا الصحف الأولى التي كانت عند أبي بكر، وأن يأخذوا الناس بها ويجمعوهم عليها، حذار تلك الردة المشتبهة، وإشفاقًا على الناس إن يصيروا كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها، فأرسل عثمان إلى حفصة فبعثت إليه بتلك الصحف، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت، وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأمرهم بأن ينسخوها في المصاحف ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش فإنه بلسانهم١.

قال زيد -في بعض الروايات عنه: فلما فرغت عرضته عرضة فلم أجد فيه هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} ٢ قال: فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدها عند خزيمة -يعني ابن ثابت- فكتبتها ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه هاتين الآيتين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إلى آخر السورة٣, فاستعرضت المهاجرين فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضًا فأثبتها في آخر براءة ولو تمت ثلاث آيات لجعلها سورة على حدة، ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه شيئًا، ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنها إليها فأعطته فعرض


١ في رواية أخرى عن زيد بن ثابت: أن عثمان أمره أن يكتب له مصحفًا بعد أن رفع إليه أمر الاختلاف, وقال: إني مدخل معك رجلًا لبيبًا فصيحًا، فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلي، فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص، فلما بلغا في الكتابة قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} قال زيد: فقلت التابوة. وقال أبان بن سعد: التابوت، فرفعنا ذلك إلى عثمان فكتب: التابوت.
وفي رواية ثالثة لابن عساكر؛ أن عثمان خطب في الناس يومئذ وعزم على كل رجل عنده شيء من كتاب الله لما جاء به، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة؛ ثم دعاهم رجلًا رجلًا، فناشدهم: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم، فلما فرغ من ذلك عثمان قال: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت، قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال فليمل سعيد وليكتب زيد، ونحسب أن اختلاف هذه الرواية وما جاء بمعناها من وجوه أخرى إنما بعث عليه تصور الرواة لأبلغ ما يكون من صور الثقة في هذا الأمر حتى يحكموه من نواحيه كلها، فإنك لا ترى منها رواية إلا وفيها مبالغة في التحري ليس في الأخرى. والذي يخبر بمثل ذلك الخبر عن القرآن إنما يخبر بأمر شديد إذا هو لم يمكن فيه لموضع الثقة ولم يحصنه أشد التحصين حتى لا تجد الشبهة إليه سبيلًا، وظاهر أنه من المحال أن تكون كل هذه الروايات هي الواقع. "المؤلف".
٢ سورة الأحزاب.
٣ سورة براءة.

<<  <  ج: ص:  >  >>