للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المصحف عليها فلم يختلف في شيء، فردها إليها وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف، فلما ماتت حفصة أرسل إلى عبد الله بن عمر في الصحيفة بعزمه فأعطاهم إياهم فغسلت غسلًا.

قلنا: وكلام زيد نص قاطع في أنه كان يحفظ القرآن كله، لم يذهب عنه شيء منه، إذ كان يعرض ما في الصحف على ما ربط في صدره وثبت في حفظه، ثم هو نص كذلك على أن زيدًا كان لا يكتفي بنفسه بل يذهب يستعرض الناس حتى يجد من يؤدي إليه، كيلا ينفرد هو بالحفظ خشية أن يكون موضع ظِنّه وإن كان الصحابة -رضي الله عنهم- قد أجمعوا على الثقة به، فلم يثبت ما أثبته إلا بشاهدين: أحدهما من حفظ غيره, والآخر من حفظه.

ثم بعث في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف، وكانت سبعة -في قول مشهور- فأرسل منها إلى مكة، والشام، واليمن، والبحرين، والبصرة، والكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا، وهو مصحفه الذي يسمى الإمام١ ثم أمر بما عدا ذلك في صحيفة أو مصحف أن يحرق، ولم يجعل في عزيمته تلك رخصة سائغة لأحد. وكان جمع عثمان في سنة ٢٥ للهجرة.

وإنما أراد عثمان بذلك حسم مادة الاختلاف؛ لأنه أمر يمد مع الزمن وتنشعب الأيام به, وهو إن أمن في عصره لم يدر ما يكون بعد عصره، وقد أدرك أن العرب لا يستمرون عربًا على الاختلاف والفتوح، وأن الألسنة تنتقل، واللغات تختلف. ثم هو رأى ما وقع في الشعر وروايته، وأن الاختلاف كان بابًا إلى الزيادة والابتداع، فلم يفعل شيئًا أكثر من أنه حَصّن القرآن وأحكم الأسوار حوله، ومنع الزمن أن يتطرق إليه بشيء، وجعله بذلك فوق الزمن.

ولم تكن المصاحف التي كتبت قبل مصحف عثمان على هذا الترتيب المعروف في السور إلى اليوم. فإنما هو ترتيب عثمان٢, أما فيما وراء ذلك فقد رووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت سورة دعا بعض من يكتب فقال: ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا، فكان القرآن مرتب الآيات، غير أنه لم يكن مجموعًا بين دفتين، فلا يؤمن أن يضطرب نسق مجموعه في أيدي الناس باضطراب القطع التي كتب فيها تقديمًا وتأخيرًا, ولم يلزم الناس القراءة يومئذ بتوالي السور، وذلك أن الواحد منهم إذا حفظ سورة أو كتبها ثم خرج في سرية٣ فنزلت سورة أخرى فإنه كان إذا رجع يأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه، وكتابته، ويتبع ما فاته على حسب ما تسهل له أكثره أو قله، فمن ثم يقع فيما يكتبه تأخير المقدم وتقديم المؤخر، فلما جمعه أبو بكر برأي عمر كتبوه على ما وقفهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا في أيام عمر يكتبون بعض المصاحف منتسقة السور على ترتيب ابن مسعود، وترتيب أبي بن كعب، وكلاهما قد سرده ابن النديم في كتابه "الفهرست"، وقال ابن فارس: إن السور


١ الأصل في هذه التسمية ما جاء في بعض الروايات من أن عثمان لما بلغه اختلاف المعلمين في القرآن كما أوردناه آنفًا، قال: عندي تكذبون به وتلحنون فيه! فمن نأى عني كان أشد تكذيبًا وأكثر لحنًا، يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إمامًا.
٢ وكان تقسيم المصحف ثلاثين جزءًا زمن الحجاج.
٣ هي عندهم من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة أو أربعمائة.

<<  <  ج: ص:  >  >>