للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في مصحف علي كانت مرتبة على النزول، فكان أوله سورة اقرأ باسم ربك، ثم المدثر، ثم المزمل، ثم تبت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدني، ولا حاجة بنا أن نتسع في استقصاء هذا الخلاف.

أما ترتيب مصحف عثمان فهو نسق زيد بن ثابت, وهو صاحب العرضة الأخيرة ولعله كان ترتيب مصحف أبي بكر أيضًا، لما مر في الرواية عن زيد من أنه قابل بين الاثنين معارضة، والله أعلم١.

ولم يكن بعد انتشار المصاحف العثمانية وانتساخها على هيئتها إلا أن استوثقت الأمة على ذلك بالطاعة وأحرق كل امرئ ما كان عنده مما يخالفها ترتيبًا أو قراءة، وأطبق المسلمون على ذلك النسق وذلك الحرف، ثم أقبلوا يجدون في إخراجها وانتساخها. ولقد روى المسعودي أنه رفع من عسكر معاوية في واقعة صفين نحو من خمسمائة مصحف، وهي الخدعة المشهورة التي أشار بها عمرو بن العاص في تلك الواقعة، ولم يكن بين جمع عثمان إلى يوم صفين إلا سبع سنوات٢.

وهنا أمر لا مذهب لنا دون التنبيه عليه، وذلك أن جمع القرآن كان استقصاء لما كتب، واستيعابا لما في الصدور، فكانوا لا يقلبون إلا بشهادة قد امتحنوها، أو حلف قد وثقوا من صاحبه، وإلا بعد العرض على من جمعوا وعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الصحابة كانوا لا يحسنون التهجي، وقد يكتبون ما يقرءون على وجه من وجوه الكتابة، أو يكتبون بحرف من القراءات، كالذي رواه ابن فارس بسنده عن هانئ قال: كتبت عند عثمان رضي الله عنه وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها "لم يتسن" و"فأمهل الكافرين"، و"لا تبديل للخلق" قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب "خلق الله" ومحا "فأمهل" وكتب "فمهل" وكتب "يتسنه" ألحق فيها


١ ويرجح أن ترتيب زيد الذي نقرأ به اليوم هو ما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما روي عن عوف بن مالك، وعن حذيفة، من أنه عليه الصلاة والسلام تهجد ذات ليلة فاستفتح فقرأ في نافلته البقرة وآل عمران والنساء والمائدة في أربع ركعات، سورة سورة على هذا النسق، وهو الذي عليه ترتيب زيد.
وهذا الخبر يظاهر ما ورد في معناه وانعقد به التصديق من أن ترتيب الآي إنما كان توقيفًا منه صلى الله عليه وسلم. ومن قصص زيد عن نفسه في تلك الرواية تعلم أنه كان يحفظ القرآن على ترتيبه آية فآية وسورة فسورة.
٢ هذا إن صحت رواية المسعودي، ونحن لا نوثقها؛ لأن الرجل مؤلف أخبار يحتمل لها من كل وجهه، أما الرواية التي نرضاها فهي ما رواه ابن قتيبة من أن عليا نادى أصحابه فأصبحوا على رايتهم ومصافهم، فلما رآهم معاوية وقد برزوا للقتال قال لعمرو بن العاص: يا عمرو، ألم تزعم أنك ما وقعت في أمر قط إلا وخرجت منه؟ قال: بلى! قال: أفلا تخرج مما ترى؟ قال: والله لأدعونهم إن شئت إلى أمر أفرق به جمعهم ويزداد جمعك إليك اجتماعًا: إن أعطوك اختلفوا، وإن منعوك اختلفوا! قال معاوية: وما ذلك؟ قال عمرو: تأمر بالمصاحف فترفع ثم تدعوهم إلى ما فيها, فوالله لئن قبله لتفرقن جماعته، ولئن رده ليكفرنه أصحابه!
فدعا معاوية "بالمصحف" ثم دعا رجلًا من أصحابه يقال له ابن هند، فنشره بين الصفين، ثم نادى: الله الله دمائنا البقية! بيننا وبينكم كتاب الله. فلما سمع الناس ذلك ثاروا إلى علي فقالوا: قد أعطاك معاوية الحق، ودعاك إلى كتاب الله، فأقبل منه ورفع صاحب معاوية "المصحف" وهو يقول بيننا وبينكم هذا.. إلخ إلخ.
وإن لم تكن هذه الرواية هي حقيقة الواقع فليس أشبه بحقيقة الواقع منها.

<<  <  ج: ص:  >  >>