للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بشيء فيه إشارة إليه- إن امرأ القيس أول من ابتكره ولم يأت أملح من قوله فيه:

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل

فمثل عينيها بسهمي الميسر، يعني المعلّى وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء، فصار جميع أعشار قلبه لسهمين اللذين مثل بهما عينيها، ومثل قلبه بأعشار الجزور، فتمت له الاستعارة والتمثيل١.

وقال في الإيغال: وهو ضرب من المبالغة إلا أنه في القوافي خاصة لا يعدوها: وليس بين الناس اختلاف أن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى بقوله يصف الفرس:

إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثأب

فبالغ في صفته وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شأوين ويبتل عطفه بالعرق، ثم زاد إيغالًا في صفته بذكر الأثأب، وهو شجر للريح في أضعاف أغصانه خفيف عظيم وشدة صوت، ومثل ذلك قوله:

كأن عيون الطير حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب

فقوله: "لم يثقب" إيغال في التشبيه، واتبعه زهير فقال:

كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به، حب الفنا لم يحطم

فأوغل في التشبيه إيغالًا، بتشبيهه ما يتناثر في فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم؛ لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن؛ فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض ألبتة وكان خالص الحمرة؛ وتبعهما الأعشى فقال يصف امرأة:

غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوحي الوجل

فأوغل بقوله: "الوجل" بعد أن قال الوحي؛ وبهذا تستدل على أن الشعراء كانوا يهتدون في الصنعة بامرئ القيس، فكان شعره لهم أشبه بكتب البلاغة للمتأخرين؛ وما من نوع من الأنواع التي سلفت إلا وقد اتبعوه فيها وانسحبوا على أثره، وعلى تقليب المولدين لهذه الأنواع حتى لم يغادروا فيها مطمعًا بقي من شعر هذا الرجل ما هو في بعض نسيج وحده، والمثال الأول في الدلالة على حده.

أما ما جاء في شعره من أنواع البديع غير ما ذكرناه، مما مثلوا له في كتبهم بشيء من قوله: كالالتفات، والتقسيم، والمقابلة، والغلو، ونفي الشيء بإيجابه في قوله:

على لاحب لا يهتدى بمناره

أي: لا منار له فيهتدي به؛ والاتساع، والاشتراك، والإشارة، والإرداف، والترصيع، وجمع


١ كانت الجزور تقسم على عشرة أعشار، والمراد أنها ضربت على قلبه بالسهمين فاختارته كما تختار بهما أعشار الجزور.

<<  <  ج: ص:  >  >>