للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المؤتلف والمختلف، وغيرها, فلم ينص أحد من علماء البديع على أنه أول من جاء به، على أنهم في أكثر ذلك لا يستدلون بشعر شاعر معروف قبله أو معاصر له، فإن لم يكن وقع في ذلك شيء فهو مبتكره، ولكن شعره على الجملة في ذلك مثال حسن؛ وبعضه لا يعدلون به شيئًا، كما ذكروا في التكرار الذي لا يكون إلا على جهة التشوق والاستعذاب إذا كان في تغزل أو نسيب، أنه لم يتخلص أحد تخلص امرئ القيس، ولا سلم سلامه في هذا الباب إذ يقول:

ديار لسلمى عافيات بذي الخال ... ألح عليها كل أسحم هطال

وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا ... بوادي الخزامى أو على رأس أو عال

وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا ... من الوحش أو بيضًا بميثاء محلال

ليالي سليمى إذ تريك منضدًا ... وجيدًا كجيد الرئم ليس بمعطال

ولكن بعض تلك الأنواع اتبع فيها امرؤ القيس غيره، كما احتذى في الغلو على قول مهلهل:

فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور

وهو الذي قالوا فيه إنه أكذب بيت قالته العرب؛ لأن بين حجر -وهي قصبة اليمامة- وبين مكان الوقعة عشرة أيام، فقال امرؤ القيس يصف النار:

تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال

وفاضلوا بين البيتين فقالوا إن مهلهلًا أشد غلوا من امرئ القيس؛ لأن حاسة البصر أقوى من حاسة السمع وأشد إدراكًا، ثم اتبع امرؤ القيس النابغة في قوله يصف السيوف:

تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقدن بالصفاح نار الحباحب

قالوا: وهو دون بيت امرئ القيس في تنور صاحبة النار إفراطًا، ودون بيت النابغة قول النمر بن تولب في صفة السيف أيضًا:

تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي

إذ ليس خارجًا عن طباع السيف أن يقطع الشيء العظيم ثم يغوص بعد ذلك في الأرض؛ فالغلو فيه ضعيف؛ وقد كدنا نخرج عما نحن بصدد منه؛ والآن فقد تبينت أن هذا الشاعر بصير بصنعة الكلام؛ [وأن] فضله إنما هو في طريقة إيراد المعنى مما يلتحق بتأليف اللفظ وتصريف الأسلوب؛ وانظر إلى قوله:

كأني لم أركب جوادًا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال

فقد اعترض في هذين البيتين وقيل: خالف وأفسد ولو جمع الشيء وشكله، فذكر الجواد والكر في بيت، والنساء والخمر في بيت، لكان أصوب، وإنما غفلوا عما قصد إليه من هذا الترتيب، وذلك أن اللذة التي ذكرها في البيت الأول إنما هي الصيد، ثم حكى عن شبابه وغشيانه النساء، فجمع المعنيين للتضايف بينهما، ولو نظم البيت كما قالوا لنقص فائدة تدل عندهم على الملك والسلطان،

<<  <  ج: ص:  >  >>