الأندلس يومئذ كأنهم من بلادهم في مسجد؛ فأوقع الحكم هذا بالفقهاء؛ لأنهم كانوا أشد الناس عليه؛ ولذلك أحدثوا في أيامه إنشاد أشعار الزهد بديا حتى شاعت وألفها الناس، ثم خلطوا على ذلك شيئًا من التعريض بالحكم على جهة الرمز والإشارة، ثقة بفهم الناس عنه؛ "ص١٣: المعجب" فلما طويت أيامه ولم تبق حاجة إلى التعريض بشخص معين، أطلقوا تلك الرموز وقصروها على الحقائق، حتى ظهرت الفلسفة الإلهية واستعمل أهلها في كتبهم الرموز والاصطلاحات، فاتسع الصوفية بذلك في شعرهم، خصوصًا بعد أن تلقوا كتب الشيخ أبي حامد الغزالي المتوفى سنة ٥٠٥هـ، قال الفيلسوف أبو جعفر بن طفيل في صفة تعاليمه: وأكثره إنما هو رمز وإشارة لا ينتفع به إلا من وقف عليها بصيرة نفسه أولًا، ثم سمعها منه ثانيًا، أومن كان معدا لفهمها فائق الفطرة يكتفي بأيسر إشارة، وقد ذكر في كتاب "الجواهر" أن له كتبًا مضنونًا بها على غير أهلها، وأنه ضمنها طريق الحق "ص٦: حي بن يقظان" يريد كتبه المشتملة على علم المكاشفة، ولم نعرف قبل هذا الزمن شاعرًا من شعراء الإلهيات الذين ينظمون على "طريقة التحقيق" وإن كان للمعري المتوفى سنة ٤٤٩هـ شيء من ذلك، ولكنه مكشوف ليس فيه من أسرار المكاشفة شيء، وإنما كان المعري حكيمًا متفلسفًا ولم يكن إلهيا محققًا وإن كان على قدم التجرد في طريقة الفقراء. وكان قبل المعري الحسين بن منصور الحلاج الذي أحرق سنة ٣٢٢هـ، وينسبون له أبياتًا قليلة على طريق الاصطلاح والإشارة وإن كان ليس من الشعراء كقوله:
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا ... لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن
والبيت المشهور:
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء!
ولسنا نصحح مثل هذه النسبة، فإن هذا رجل اشتهرت حاله فسهل الحمل عليه، وكان أشعر شعراء القرن السادس في هذه الطريقة وما ناسبها محمد بن عبد المنعم الغساني الجلياني "جليانة: قرية من أعمال غرناطة" المتوفى بدمشق سنة ٦٠٢هـ، وكان يقال له حكيم الزمان, وأكثر شعره في الحكم والإلهيات وآداب النفوس والرياضيات والكلام على طريق القوم "ص١٦ ج٢: نفح الطيب" وفي القرن السابع نشأ أكبر شعراء الصوفية الذين تركوا لغيرهم هذا الميراث، وهم الشيخ ابن الفارض المتوفى سنة ٦٣٢هـ، والشيخ ابن العربي المتوفى سنة ٦٤٠هـ، وأبو الحسن التستري المتوفى سنة ٦٦٨هـ "ص٤١٠ ج١: نفح الطيب". وابن سبعين المتوفى سنة ٦٦٩هـ، ولم ينشأ بعد هؤلاء من يساويهم أو يذكر معهم في طريقة التحقيق؛ على أن أشهر المتأخرين بعدهم الشيخ عبد الغني النابلسي المتوفى سنة ١١٤٣هـ.
ولم يكن نظمهم مقصورًا على الشعر وحده، بل كانوا ينظمون في المرشح والزجل أيضًا. ولكن ذلك منهم قليل؛ لأنهم إنما يريدن بالشعر المدارسة والحفظ، وأن يكون من أشعار المذاكرة عندهم وأبيات الطرائف.