والنابتة، وقد رواهما الجاحظ في "الحيوان""ج٦" وشرح منهما ما يختص بالحكمة دون النحلة؛ وكان بشر أروى المعتزلة للشعر، ولكن كل أولئك ومن حذا حذوهم لم يتخذوا الفلسفة والنحلة إلا مذهبًا، وإنما كان شعرهم لسان اعتقادهم فيها ولهذا كان خيرًا لهم لو كانوا على غير ذلك، بخلاف الفلاسفة من شعراء الأندلس -وسنذكرهم في موضع الكلام عليهم- وبخلاف من استعان بالحكمة اليونانية والفارسية في الشعر، كأبي العتاهية وأبان بن عبد الحميد اللاحقي شاعر البرامكة، وكالمتنبي والمعري وأبي علي بن الشبل الحكيم البغدادي المتوفى سنة ٤٧٣هـ وغيرهم، فإنهم إنما وصلوا بالحكمة بين العقل والقلب، وجعلوا لها من الشعر منفذًا بينهما إلى الروح، ولذلك قال بعضهم: لو سألوا الحقيقة أن تختار لها مكانًا تشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من الشعر.
وكان صالح بن عبد القدوس من الشعراء الفلاسفة، وجميع شعره في الحكمة والأمثال؛ ولذلك عابه الجاحظ عليه وقال إنه لو تفرق في أشعار كثيرة لزانها، وكان مذهبه مذهب السوفسطائية الذين يزعمون أن الأشياء لا حقيقة لها، وأن حال اليقظان كحال النائم؛ وله كتاب سماه كتاب الشكوك، قال فيه: كتاب وضعته من قرأه شك فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان!
الشعر الإلهي:
وهو النوع الذي يكون إلهيا محضًا تستخدم فيه المادة الشعرية للرمز عن الحقائق كأشعار الصوفية ومن أخذ أخذهم، والعلماء يسمون طريقة ذلك النظم "طريقة التحقيق" ويقول المتصوفة فيه:
جسوم أحرفه للسر عاملة ... إن شئت تعرفه جرب معانيه
وقد كان بعض العلماء ينكر هذه الشطحات وهو يعتقد بها، صيانة لظاهر الشرع، إلا أن الأدب لا ظاهر له دون حقيقته، فيمكن أن نقول إن هذا الشعر نوع من العلم موزون، وقد سميناه علمًا؛ لأنه لا بد أن يكون مؤولًا لا يقصد ظاهره وإنما تكون له محامل يحمل عليها، كقول الشيخ محيي بن العربي "كان المغاربة يقولون ابن العربي واصطلح أهل المشرق على ذكره بغير ألف ولام، فرقًا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي "ص٤٠٤ ج١: نفح الطيب":
يا من يراني ولا أراه ... كم ذا أراه ولا يراني
فلو أدرت القول في هذا سنة ما عرفت وجه تأويله، ولكن بعض إخوان الشيخ سأله: كيف تقول إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقال مرتجلًا:
يا من يراه مجرما ... ولا أراه آخذا
كم ذا أراه منعما ... ولا يراني لائذا!
"ص٤٠١ ج١: نفح الطيب".
وكان أصل هذا النوع من الشعر في الأندلس في أواخر القرن الثاني أيام الحكم بن هشام الملقب بالربضي، فإنه كان طاغيًا مسرفًا له آثار سوء قبيحة، وقد كان من قبله أهل تقوى ودين، وكان أهل