المطابقة، بخلاف الإسلاميين فإنهم مارسوا صفة الأخلاق ومرنوا عليها، حتى تجد للشاعر منهم في الباب الواحد أقوالًا متناقضة، وهم مع ذلك لا يدرسون تلك الأخلاق، بل يتلقون من تجارب غيرهم، ومن الحكمة التي وضحت لهم، ثم يرسلون الشعر في ذلك على أن صنعة دقيقة يستدل بها على لطف الحس وذكاء الفؤاد، ثم لا يعجب من ذلك إلا من يصيب بفطنته موضع الدقة ويقع على مكمن الخاطر، ولذلك لم يكن للشعر الأخلاقي تأثير في الاجتماع الإسلامي، ولم تستمد منه مبادئ ذلك الاجتماع شيئًا؛ لأنهم لم [يداوروا] من السياسة، ولا أرادوا به مكامن الاعتقاد، ولا أجروه مجرى النظر في طبقة من الطبقات؛ وإذا أخرج الكلام على أنه صنعة، نظر فيه الناس على أنهم متفرجون "يقال تفرج بكذا إذا جعل منه لنفسه لهوا".
أما من خالف ذلك من الشعراء بعض المخالفة؛ وحاول أن يجعل كلامه في الأخلاق للناس لا لنفسه، وأن يقرر فيه مبادئ قد درسها؛ ويعطيه من مادة التأثير الاجتماعي، كالمعري في بعض ديوانه "اللزوميات" فإنه يطرح ويجفى؛ لأنه لا يؤتى من قبل الناس وفسولة آرائهم، بل من قبل نفسه أيضًا؛ لأن أحدًا من الشعراء في التاريخ الإسلامي كله لم يترك أن يتخذ الشعر [صفة] تأدبًا أو تكسبًا، ولم يقف أحد منهم شعره أو جزءًا منه على مذهب واحد في السياسة أو الاجتماع يتفنن في شرحه والاحتجاج له والاحتيال في تصوير معانيه وإيراد أجزائها على نحو ما يقتضي "لعصره"، بل تراهم يخرجون أشعارهم مخرج الخواطر والسانحات، وهمهم أن يجمعوا فيها أبوابًا من الحكمة وفنونًا من الأخلاق، ثم يتركوا للناس شأن الاختيار، وإطلاق الاختيار وحده كاف في إضعاف كل مذهب؛ لأن من توخى الإقناع توخى به الحمل عليه.
وذلك هو شعر المواعظ والنصائح والحكم، وهو كثير، وقد اشتهر به أفراد، كصالح بن عبد القدوس، وأبي الشيص، وغيرهما؛ وتهافت به بعض العلماء حتى وضعوا فيه الكتب المستقلة، كسعد بن ليون التجيبي في القرن الثامن؛ وهو من أشياخ لسان الدين بن الخطيب، فقد نظم في ذلك ثلاثة كتب وأورد في بعضها أشياء لغيره، وقد ساق منها المقري -في "نفح الطيب"- قطعة كبيرة "ص٣٠٢ ج٣".
وعندنا أن شعراء الجاهلية لو قدر لهم أن يسخروا الشعر في السياسة والاجتماع الراقي "الديموقراطي" لقلدهم الإسلاميون في ذلك ولبلغوا بهذا النوع مبلغ الكمال، لكن من أين للعرب سياسة الملك ونظام الاجتماع؟ على أنهم مع ذلك لم يهملوا نوعًا من الشعر السياسي، وإن كان قليلًا بينهم لقلة البواعث عليه، كقصيدة لقيط بن يعمر الإيادي التي ينذر بها قومه غزو كسرى إياهم، وكان كاتبًا في ديوانه، ويعلمهم وجه الحزم في تدبير أمرهم وسياسة مجتمعهم واختيار من يلقون إليه المقادة في ذلك، وهي شهيرة متدارسة، وكأبيات سلمة بن خرشب التي أرسل بها إلى سبيع التغلبي في شأن الرهن التي وضعت على يديه في قتال عبس وذبيان، يذكر فيها لسبيع سياسة القضاء وتدبير الحكم، وقد رواها الجاحظ في "البيان""ج١" ولا بد أن يكون لهم من مثل ذلك أشياء لم تقع إلينا، والله أعلم.