وغيرهم؛ ومن هؤلاء نوع يحكون ألفاظ الناس من الأقطار المختلفة مع مخارج حروفهم، لا يغادرون من ذلك شيئًا، ويحكون ألسنة الدواب والبهائم؛ وذكر الجاحظ من مشاهيرهم أبا ربوبة الزنجي مولى آل زياد، وقال إنه يقف بباب الكرخ لحضرة المكارين فينهق فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير ولا متعب بهير إلا نهق ... "ج١: البيان".
وليس ذلك عجيبًا في مثل طبقة أبي ربوبة، ولكن العجيب أن يكون مثله في الشعراء الظرفاء؛ فقد ذكر الثعالبي في ترجمة أبي محمد بن زريق الكوفي الكاتب الشاعر أنه كان من عجائب الدنيا في المطايبة والمحاكاة وكان يخدم مجلس الوزير المهلبي، ويحكي شمائل الناس وألسنتهم فيؤديها كما هي، فيعجب الناظر والسامع ويضحك الثكلان "ص١٤٢ ج٢: بتيمة الدهر"؛ وهذا نوع من التمثيل انفرد به اليوم في أوروبا قوم ربما صور الواحد منهم في نفسه العالم مناطق ولهجات وأزياء.
وقد يكون من البواعث على الشعر الهزلي والتزام هذا المذهب أن يجد الشاعر نفسه لا يقع مع فحول المعاصرين له في شيء، فيسلك هذا المسلك يتميز به بينهم، كما فعل رأس الشعراء الهزليين ابن الحجاج البغدادي المتوفى سنة ٣٩١هـ، وهو الذي جعلوه بعد ذلك مقياسًا في الشعر الهزلي؛ ويقال إنه في الشعر كامرئ القيس ولم يكن بينهما مثلهما؛ لأن كل واحد منهما مخترع طريقة وكان مع ذلك من كبار شعراء الشيعة، وعاصره أبو حامد الأنطاكي المنبوز بأبي الرقعمق المتوفى سنة ٣٩٩هـ. قال الثعالبي: هو بالشام كابن حجاج بالعراق، وكما فعل أبو عبد الله محمد الوهراني الكاتب، وقد دخل البلاد المصرية في زمن صلاح الدين فرأى بها القاضي الفاضل، وعماد الدين الأصبهاني، وتلك الحلبة، وعلم من نفسه أنه ليس من طبقتهم، فتنفق عندهم برسائله الهزلية ومقاماته المشهورة، وسنذكرها في موضعها، وتوفي الوهراني سنة ٥٧٥هـ.
ويكون من ذلك أيضًا التزام الشاعر مذهبًا واحدًا في الهجاء يريد أن يعرف به ويجعله عرضة ملحه ونوادره، كما فعل ابن سكرة الهاشمي معاصر ابن الحجاج، وكان يقال فيهما: إن زمانًا جاد بابن سكرة وابن الحجاج لسخي جدا، وهو من شعراء المجون والسخف كابن الحجاج، إلا أنه انفرد عنه بهجائه الهزلي في قينة له سوداء يقال لها خمرة، وقد نظم في هجائها عشرة آلاف بيت "ص١٨٩ ج٢: يتيمة الدهر". وكما فعل إسماعيل بن إبراهيم البصري الحمدوني الشاعر في الطيلسان الذي أعطاه إياه أحمد بن حرب، وكان خليعًا، فسير فيه الحمدوني مائتي مقطوع، في كل مقطوع معنى بديع، حتى ذهب طيلسان ابن حرب مثلًا إلى اليوم، وكان الأصل الذي عمل عليه الحمدوني أنه وقف على أبيات عملها أبو حمران السملي في طيلسانه، وكان قد أخلق حتى بلي، فتهافت بمعارضتها وجعل ذلك له طريقة يعرف بها "ص٤٧٣ ج٢: ابن خلكان".
ومن ذلك أيضًا أن يهزل الشاعر في تصوير حالة من الفقر أو الضعف أو نحو ذلك من الصفات التي يتباين فيها الناس، فكأنه يرمي إلى انتقاد الخطوط والأقسام، كما فعل أبو الشمقمق في ذكر فقره وفقر بيته من الفئران ومصيبة سنوره من ذلك، وساق الجاحظ بعض أشعاره تلك في "الحيوان""ص٨٢ ج٥".