وكان عند الأعراب كثير من هذا النوع، وكذلك ترى منه قصائد وقطعًا في شعر المولدين والمتأخرين، وبعضهم خص أكثر شعره بالفحش والتعهر حتى ضربوه مثلًا فنحن نضرب عنه صفحًا.
وجاء بعد هؤلاء علي بن عبد الواحد صريع الدلاء وقتيل الغواني المتوفى سنة ٤١٢هـ، فسلك مسلك أبي الرقعمق، ونبز بلقب ذي الرقاعتين، وله مقصورة في الهزل يعارض بها مقصورة ابن دريد المشهورة، وابن الهبارية الملقب بنظام الدين البغدادي المتوفى سنة ٥٤٠هـ، قال العماد الكاتب في "الخريدة": إنه غلب على شعره الهجاء والهزل والسخف، وسبك في قالب ابن الحجاج وسلك أسلوبه وفاقه في الخلاعة، قال: والنظيف من شعره.... في غاية الحسن، ثم كان بعده الشاعر المتصرف في أكثر فنون الهزل أبو الحكم الباهلي الأندلسي المتوفى بدمشق سنة ٥٤٩هـ، قال المقري: وكان ذا معرفة بالأدب والطب والهندسة، وله ديوان شعر سماه "نهج الرضاعة لأولى الخلاعة"، ذكر فيه جملة شعراء كانوا بمدينة دمشق كطالب الصوري، ونصر الهيثمي وغيرهما.... ورثى فيه أنواعًا من الدواب ومن الأثاث وخلقًا من المغنين والأطراف، قال: وشرح هذا الديوان ابنه الحكيم الفاضل أبو المجد محمد بن أبي الحكم الملقب بأفضل الدولة "ص١٧ ج٢: نفح الطيب" فانظر ما عسى أن يكون هذا الشرح؟ ولأبي الحكم هذا مقصورة هزلية عارض بها مقصورة ابن دريد أيضًا، ومثل هذه المعارضة كثيرة للقصائد المعروفة يتعلق عليها أهل الظرف والملح، وقد رأيت شاعرًا من شعراء الحلبة التي سبقت وقتنا هذا وغاب عني اسمه، تناوله ألفية ابن مالك فقلبها كلها تطفلًا ونقل ما فيها من أحكام اللسان على الأضراس والأسنان، وكان يفتخر دائمًا بهذا الطبخ!
وأورد المقري أيضًا قصيدة من هزل الأندلسيين ومجونهم قال إنها منسوبة لأبي عبد الله بن الأزرق وقد ذكر فيها صوت الصفع وصوت الضحك، كما هو، على نحو ما صورت العرب أصوات الأشياء كقولهم:"جرت الخيل فقالت حبطقطق" ونحو ذلك، والقصيدة متشعبة الفنون "ص١٩٣ ج٢: نفح الطيب".
ثم نبغ محمد بن دانيال الموصلي الحكيم المتوفى بمصر سنة ٦٠٨هـ قال فيه الصفدي: هو ابن حجاج عصره، وابن سكرة مصره، وله غرائب يتناقلها المصريون عنه من النكت والنوادر؛ وتقي الدين بن العربي المتوفى سنة ٦٨٤هـ وهو صاحب القصيدة الدبدبية الشهيرة التي جمعت فنونًا من الهزل، وقد ذكرها العاملي في "الكشكول".
وبالجملة فقلما تجد شاعرًا قد نضجت قريحته ونفذ خاطره في أسرار الأشياء إلا وله في مطارح نظره شيء من الضحك يخرج تهكمًا واستهزاء، فكأنما تكشف له الطبيعة عن حقيقة تركيبها على ما خلقها الله، فكلما قارن بها هذا الوضع الاجتماعي المصنوع رأى تركيبًا مضحكًا؛ ولولا ذلك لمحقت مادة الانتقاد، والانتقاد قوة إلهية في قريحة الشعراء؛ فإذا أردنا بهزل القرائح هذا المعنى الجدي فالشاعر الذي لا يكون فيه هذه القوة يشبه أن يكون على نقص تركيبه في نظر الحكيم المتأمل، كائنًا من الكائنات المضحكة أيضًا.
أما إذا أردنا المعنى العام وهو التطرف في الانتقاد بمقدار ما يتطرف المتبسم إلى القهقهة أو